في معظم الأحيان نجد أنفسنا واقعين في هوة التأثر بالآخرين السحيقة فما نستطيع منها فكاكا لدرجة أن آراءنا ومعتقداتنا وكل ما نعتقده ونعتنقه هو وليد التأثر بالآخرين ليس إلا، أي أن الإنسان ليس أصيلا في أفكاره وتوجهاته بل نتاج التأثر بالبيئة والمحيط والآن نحن ضحايا حملات توجيه عالمية تعبث بآرائنا ومعتقداتنا وتصيغ من جديد مبادئنا وأفكارنا، فكيف على الإنسان أن يعثر على شخصيته الحقيقية ويتعامل بها بعيدا عن يفعله بنا العالم من تأثير وآثار مختلفة؟ هذا ما سنتحدث عنه في السطور التالية.
استكشف هذه المقالة
ما الذي يدفعنا إلى التأثر بالآخرين ؟
منذ الولادة ونحن مدفوعين إلى التأثر بالآخرين حيث يصيغ الأب والأم أفكارنا وتوجهاتنا وتصيغ البيئة مبادئنا وطريقة تعاملاتنا ويصيغ المدرسين والمدرسات رؤيتنا ويجعلنا نتبنى وجهة نظرهم، وبمجرد ما تتجاوز مرحلة الطفولة وتبدأ في الانعتاق عن تأثير الآخرين عليك حتى تجد نفسك أمام مفترق طرق، إما أن تصيغ رؤيتك للعالم بالطريقة التي تناسبك وهذه مجازفة كبيرة وقليلون من ينجرفون وراءها وإما أن تظل على معتقداتك وأفكارك التي اكتسبتها من محيطك لكنها ليست أصيلة فيك ولا تعبر عن شخصيتك بشكل كبير خصوصًا أنك لا زلت في مرحلة بناء الشخصية والعثور على الذات فأي وسيلة للخروج عن دفء الموروثات المعتادة سيتسبب في شعور بالاغتراب والوحدة بالتالي تجد نفسك نسخة ممن سبقوك وتمارس بدورك التأثير في الآخرين عن طريق توجيههم نحو اعتناق أدبيات المحيط.
ما هي الجهات التي تؤثر فينا؟
هناك جهات تأثر فينا بقصد أو من غير قصد، جهات تجعلنا مدفوعين إلى التأثر بالآخرين رغما عنا فالصفات المثالية لما يجب أن يكون عليه إنسان هذا العصر هي ما تجعلنا نتسابق كي نتصف بها وبالتالي هناك الكثير من الأشياء التي تؤثر فينا وتدفعنا إلى الاعتناق الأعمى لمبادئ ربما تحتاج إلى إعادة النظر:
الأسرة والمجتمع
اللبنة الأولى في بناء أي شخص هي الأسرة والأسرة هي الأب والأم والأقارب الذين يوجهونك وأنت طفل نحو الصواب والخطأ بالتالي تستقي ثقافة الصواب والخطأ منهم حيث يرمون فيك البذرة ويتركونها تنمو فيك حتى تستوطن وجدانك بالكامل وبما أن الأسرة في محيطك هي شبيهة بباقي الأسر في المحيط وبالتالي هي ما تكون المجتمع فأنت فريسة التأثر بالآخرين في مجتمعك خصوصًا وأنهم يضعون نماذج مثالية لما يجب أن تكون عليه وبعد فترة تصبح هذه النماذج هي مثلك الأعلى فيقولون لك: “كن مثل خالك” “تعلم من فلان” “لا تصبح مثل فلان” بالتالي أنت يتولد لديك حساسية تجاه الصفات التي يحملها فلان هذا والذي يجب أن تكون عليه وبالتالي تريد أن تصبح مثل هذا الشخص دون أن تفكر هل هذا الشخص جيد بالفعل أم لا؟ هل هو سعيد في حياته هذه أم لا؟
وسائل الاتصال الحديثة
ثمة حرب الآن بين المجتمع بما يشكله من جيل قديم وآباء وأمهات لم يكن لديهم روافد ثقافية غير مكتسبات الأجداد والموروثات التقليدية وبين الشباب على وسائل الاتصال الحديثة وأهمها الإنترنت الذين يحاولون إعادة صياغة هذه الموروثات وإعادة النظر فيها من جديد ويبثون أفكارا مغايرة لأفكار المجتمع وعلى عكس ما يبدو هذا رائعا إلا أن العديد من الناس يقعون فريسة التأثر بالآخرين عبر الإنترنت، لأنهم أيضًا بدورهم لا يجلسون ويفكرون في هذا الكلام ويتأملون فيه بل يتفاعلون معه بلا وعي وعادة ما تكون الخطابات الزاعقة ذات النبرة الانفعالية هي الأكثر تأثيرا في الجماهير فتجد نفسك تتخذ موقفا من شيء بناء على هذه الخطابات الزاعقة، وهذا لا فرق بينه وبين تبني رؤية المجتمع أيضًا الأمر أنك انتقلت إلى الجهة المقابلة فحسب.
وسائل الإعلام
وسائل الإعلام سواء الإعلام الرسمي أو القنوات الفضائية كلاهما يعملان على التأثير فيك قبل أن تعتنق رأيا انظر إليه جيدا هل هو كلام إعلامي معين أم هو نتاج تفكيرك وتحليلك، قبل أن تتخذ موقفا من شيء بعينه هل هذا يعني أنه بناء على انحيازاتك الشخصية أم أنه تأثر من التوجيه الذي يقوم به الإعلام تجاهك؟ هذا ما نتحدث عنه على الدوام أنك قد لا تعرف أين هي شخصيتك الحقيقية وراء كل ذلك وأنت ضحية التأثر بالآخرين وبخطاباتهم حتى أصبحت مسخا لا اعتنقت رأيا يخصك ولا ظللت غير محددا لموقفك لأنك لا تريد تبني رأيا لا يعبر عنك.
كيف يمكننا العثور على شخصياتنا الحقيقية؟
وأخيرا سنتحدث عن الكيفية التي نتوقف من خلالها عن التأثر بالآخرين ونكون شخصياتنا الحقيقية أو نعثر عليها بعد أن تاهت وسط كل هذه المؤثرات الخارجية التي توجهنا طوال الوقت في الطريق الذي لا نريد أن نمشي به:
القراءة
عليك أن تقرأ كثيرا بعين حيادية وبعيدة عن كل التحيزات والأحكام المسبقة، وعليك أن تمتلك النظرة النقدية وأنت تقرأ لأن كثير من الكتاب يريدون التوجيه أيضًا وأنت كفاك ما نلت من التأثر بالآخرين بالتالي لا تصدق أيضًا كل ما تقرأه ولكن تظل الكتب الوسيلة الأكثر نزاهة لتستقي منها الأفكار ولأن الكتب هي وليدة نتاج فكري لشخص ما جلس في ليلة وحيدا ومتقدا بالأفكار فقام بالتخلص من هواجسه عن طريق إفراغها في الكتابة فأنت ستحصل على صورة صادقة وحقيقية لفكر شخص آخر ربما ستجده متقاطعا مع ما تريد التعبير عنه أي أن القراءة وسيلة للعثور على شخصيتك واستخراجها من بين براثن تأثير الآخرين عليك.
التحليل والتأمل
عليك أن تحلل وتتأمل كل فعل وكل موقف يحدث يجب ألا تأخذ الأمور من سطوحها عليك أن تقرر ما الذي يرضيك وما الذي تراه غير جائز، أن تنظر لكل ما يقال لك بنظرة متشككة مبنية على احتمالية الصدق والكذب، الصواب والخطأ، الموضوعية أو الانفعالية، تأمل في كل الأمور ورد الأمور إلى أصولها، على أن تنبثق كافة أفكارك ومبادئك من المثل العليا الحق والخير والجمال، اجعل خلاص الإنسانية هو مرادك واسأل نفسك هل هذا الفعل إنساني؟ هل هذا الهدف إنساني؟ من يخدم هذا الخطاب ومن لا يخدم وفي مصلحة من وما الفائدة التي ستعود عليك من خلاله وهكذا.
كن نفسك فحسب
رغم كل المصاعب التي تنطوي عليها هذه النصيحة، كل المخاوف بالوحدة والاغتراب والقلق الوجودي والنفسي والطريقة غير المريحة التي سيتعامل بها محيطك معك حين تعثر على شخصيتك خصوصًا إن كان مغايرا لأفكارهم وتوجهاتهم وقتها فقط سوف تخسر انخراطك بين محيطك بشكل كامل ولكن ستكسب أن يكون لك شخصية مستقلة حتى إن لم تستطع الاندماج بشكل كامل فعلى الأقل سوف تربح احترامهم حتى إن لم يعترفوا لك بهذا بشكل كامل.
التأثر بالآخرين مرض كبير ينشأ منذ الولادة ويحرم الإنسان من متعة الاكتشاف ومن بناء شخصيته بنفسه وتحديد مفرداتها وتفاصيلها عن طريق تجربته واختياراته، ولذلك يبذل الإنسان جهدا كبيرا حتى لا يقع في هذا الفخ المميت أو يتخلص منه.
مقال يوضضح الكثير
جزاكم الله خيرا 🙃💙
جميل