تسعة
الرئيسية » اعرف اكثر » تعرف على » التقدم التكنولوجي : هل جعلت التكنولوجيا حياتنا أيسر أم أسعد ؟

التقدم التكنولوجي : هل جعلت التكنولوجيا حياتنا أيسر أم أسعد ؟

التقدم التكنولوجي أمر نلاحظه في كل ما حولنا، ونظن أنه يجعل حياتنا أكثر سعادة، فهل يجعلها أكثر سعادة فعلاً أم أنه يجعلها أيسر فقط؟

التقدم التكنولوجي

التقدم التكنولوجي هو المعلم الأبرز على الحضارة الإنسانية الحديثة؛ إذ أن السمة التي يتميز بها العصر الحديث هي سمة التقدم التكنولوجي. فالتكنولوجيا بحد ذاتها هي معلم من معالم الإنسانية، الإنسان وحده هو الذي تميز من سائر الكائنات بقدرة فائقة على التكيف للبيئة والتطور التقني لما يتناسب مع متطلبات هذه البيئة ومقتضياتها. والإنسان كائن لا يهدأ أبدا، فهو لا يكاد يستقر على حال ويتكيف لظرف ما حتى يجد نفسه في حاجة ملحة إلى مزيد من التمكن وإحكام القياد والسيطرة على ما يعترضه من ظروف البيئة المحيطة، وكل هذه الرغبة الملحة تترجم في السلوك الإنساني إلى مزيد من الابتكار والإبداع فيما يتعلق بصناعة الأدوات التي تمكنه من إحكام القياد، ومن العمل على تطويرها وتحسين أدائها. فها هذا الإنسان الأول الذي كان يعيش على الصيد يجد نفسه مضطرا إلى أن يتخذ لنفسه فرع شجرة ليصطاد به الحيوان الذي يريد الإيقاع به، فإذا وجد هذه العصا التي هي من فرع شجرة قليلة الفائدة، تكلف الحيلة حتى يدبب أحد أطرافها ويجعله حادا ليكون أسرع انسيابا في الهواء وأكثر قدرة على اختراق جسد الحيوان المراد الإيقاع به. هذه العملية من التفكير التي أدت بالإنسان البدائي إلى سن أحد طرفي العصا هي عملية تقنية بالأساس، هي عملية تكنولوجية.

دور التقدم التكنولوجي في تحقيق السعادة لنا

معنى التقدم التكنولوجي

التكنولوجيا هي عملية إنسانية بحتة، تهدف إلى ابتكار الأدوات التي تمكن بني الإنسان من التعامل مع البيئة المحيطة ومتطلباتها بشكل أفضل. والتعديلات والتحسينات الطارئة على أداء هذه الأدوات، وكذا الحال الابتكار الجديد لهذه الأدوات والذي من شأنه سد فجوات في حياة الإنسان العملية، أو العمل على تحسين أوتجويد أو تسريع من أداء الإنسان في نيل أغراضه -يسمى “التقدم التكنولوجي”. فالتقدم التكنولوجي إذن هو انتقال الإنسان من مرحلة إلى مرحلة أخرى مباينة, كالانتقال من العصر الحجري إلى العصر النحاسي مثلا، أو الانتقال من عصر النسخ اليدوي في طباعة الكتب إلى عصر المطبعة الآلية. ويكون التقدم التكنولوجي إذن هو العلامة البارزة على إنسانية الإنسان؛ إذ أن الإنسان وحده هو الكائن الوحيد الذي يتسم بالتطور الثقافي والحضاري، وليس لكائن آخر من الكائنات أن تكون له حضارة أو ثقافة فضلا عن العمل على تطويرها.

التقدم التكنولوجي بين استخدام الإنسان له، واستخدامه للإنسان

كثير من الناس لا يعرف تمييزا دقيقا بين استخدام الإنسان للآلة واستخدام الآلة للإنسان. فهذا الاستخدام المتبادل والذي لا يلحظه الغالبية العظمى من الناس يسمى ب”الجدل” أو الديالكتيك. فعلى سبيل المثال، سيدة قصر وخادمتها، من تكون السيد ومن تكون الخادم؟ والإجابة عن مثل هذا السؤال يسيرة جدا للوهلة الأولى، فصاحبة القصر هي السيد والخادمة هي الخادم. لكن لو فكرنا في الأمر من منظور مختلف، فإن هذه الخادم إن أرادت ألا تجيء إلى القصر لتخدم سيدتها، بذا أضحت هي المتحكمة في الأمر وأسرعت صاحبة القصر تتوسل إليها بالمجيء، ولانقلب الأمر واستحالت الخادم إلى سيدة وصاحبة القصر إلى خادم. هذه الصورة بالضبط تنطبق على التقدم التكنولوجي، إذ يتصور الإنسان أن التقدم التكنولوجي إنما هو جعل لصالحه، ومن ثم فالتقدم التكنولوجي هو الذي في خدمة الإنسان، وهو إنما ما جعل إلا لتيسير حياة الإنسان بكافة أوجهها. لكن من ناحية أخرى فإن التقدم التكنولوجي طغى على حياة الإنسان بحيث أمسى الإنسان لا يستطيع من دونه العيش، وإن المخاوف والهواجس لتضطرم في الأفق الإنساني أن يصيب الطاقة -التي هي عماد التقدم التكنولوجي- نضوب أو نقص دون أن يجد الإنسان لهذه الطاقة بديلا قبل نضوبها. وإن الاعتماد على التكنولوجيا قد بلغ من استهواء الإنسان واستخدامه حدا يستطيع معه أن يقلب موازين الحاجات الإنسانية، بمعنى أن المثل دوما يقول أن الحاجة هي أم الاختراع، لكن مع النهم الرأسمالي المتعطش دوما للاستهلاك والتصدير قد انقلبت الآية لتجعل من الاختراع أمًّا للحاجة، فأمست الاختراعات هي التي تولد الحاجة لدى الإنسان ليجلبها، لا أن ينتظر حاجة الإنسان ليخترع له ما يشبع حاجته.

أزمة التقدم التكنولوجي

وعروجا على ما سبق، فإن للتقدم التكنولوجي من الأزمات مقدار ما له من مكافحة الأزمات، فالحق أن التقدم التكنولوجي هو المعادل الدلالي لحل الأزمات التي تعترض الإنسان، وعلى سبيل المثال فإن اختراع آلة الطباعة على يد يوهان جوتنبرج كان له من الآثار الإيجابية ما جعل الحضارة الإنسانية تنتقل من مرحلة إلى مرحلة أخرى تماما، إذ فتحت آلة الطباعة الآفاق المعرفية إلى مصراعيها وذلك بالانتشار المهول في عمليات الطبع ونشر المعرفة على أوسع النطق. لكن من ناحية أخرى فإن للتقدم التكنولوجي آفات ذكرنا بعضا منها ونلخص بعضا آخر فيما يأتي:

  • التقدم التكنولوجي همش من دور الإنسان في أي مهمة تستطيع الآلة القيام بها عوضا عن الإنسان؛ ومن ثم أصبح الإنسان مجرد ترس يدور في هذه الآلة، ليس ذلك فحسب وإنما هو ترسا ثانويا يمكن الاستغناء عنه. والأكثر أهمية مما تقدم أن الآلة -التي هي نتاج التقدم التكنولوجي- لأنها تنتج كميات كبيرة في العمليات الصناعية، خلفت وراءها عددا لا يحصى من البطالة في القوى العاملة الإنسانية.
  • التقدم التكنولوجي جعل من القيمة الجمالية أمرا غير واردا، فالأساس هو زيادة العملية الإنتاجية لا العملية الإبداعية، فعلى سبيل المثال فإن اختراع الكاميرا جعل من إبداع الإنسان في عملية الرسم والتصوير أمرا ثانويا لا يعتد به. فالقيمة الإنتاجية تغلبت على القيمة الجمالية.
  • ومن الأمور اللافتة أيضا للتقدم التكنولوجي أنه وعلى الرغم من كونه يسر الكثير من الأمور في حياة الإنسان الحديث، إلا أنه على الجانب الآخر قد خلف للبشرية مشكلات لا عهد لها بها. فمشكلات من مثل بعض الأمراض المرتبطة بالحضارة الحديثة، وكذا الحال تلوث المياه والهواء، ومشكلات أخرى كالتصحر وارتفاع درجة حرارة الأرض والقضاء على الغابات وانقراض بعض أشكال الحياة الأمر الذي يخل بالتوازن البيئي على كوكبنا، كما أن مشكلات أخرى نتجت عن التقدم التكنولوجي كظهور الفوارق الاقتصادية والاجتماعية بين البشر بشكل لم يسبق له مثيل.

التقدم التكنولوجي بين اليسر والسعادة

كما رأينا فإن التقدم التكنولوجي له من المثالب ما له من المنافع، ولكن سؤالا آخر يطرح نفسه: هل جعل التقدم التكنولوجي حياتنا أيسر أم أسعد؟ والإجابة على هذا السؤال يسيرة، فليس عليك إلا أن تحزم أمتعتك وتذهب للعيش فترة معية في إحدى القرى البسيطة التي لا حظ لها من التقدم التكنولوجي إلا قليلا. فها هي ربة البيت تقوم بالطهي على الكانون أو أي أداة بدائية، كما تقوم بغسيل الملابس على يديها، وها هو رب البيت يذهب للفلاحة في أرضه طيلة النهار ثم يعود آخر اليوم إلى بيته ليجد بانتظاره الغداء معدا والأبناء يلتفون على طاولة الطعام (الطبلية)، ثم إذا ما انقضى الغداء أخذوا يتسامرون ويتلاعبون بأعذب الأحاديث وأقربها للدعة وراحة البال، لا يهرعون إلى جهاز حديث بين أيديهم، ولا يتداولون الأخبار السيئة التي تنتقل بسرعة البرق إلى كل قنوات الأخبار سواء على أجهزة التلفاز أو عبر الإنترنت، وإنما إن كان لديهم جهاز فهو تلفاز بسيط يشاهدون من خلاله فيلما أو يتابعون مسلسلا، أما ماعدا ذلك فبالهم ناعم هانئ لا يحتشد به ما يحتشد ببال أولو الأجهزة الحديثة والعصر الحديث.. أولو التقدم التكنولوجي. من هنا كان بوسعنا القول أن التقدم التكنولوجي وإن جعل حياتنا أيسر فهو كان ليجعل حياتنا أقل سعادة.

ليزا سعيد

باحثة أكاديمية بجامعة القاهرة، تخصص فلسفة، التخصص الدقيق دراسات المرأة والنوع.

أضف تعليق

4 × 2 =