تسعة
الرئيسية » صحة وعافية » أبناء الريف : لماذا قاطني الريف حياتهم أبسط وأسعد من أهل المدن ؟

أبناء الريف : لماذا قاطني الريف حياتهم أبسط وأسعد من أهل المدن ؟

لاحظت الدراسات أن حياة أبناء الريف تعتبر في مجملها أكثر سعادة وأقل في الضغوطات من أبناء قاطني المدن، فلم يحدث هذا الفارق الكبير؟

أبناء الريف

أبناء الريف مصطلح يثير في نفوسنا الكثير من مشاعر استعذاب الجمال والفطرة والطبيعة والبساطة، فمن من أهل المدينة لا تساوره رغبة ملحة في أن يترك عمله وحياته ومشاكله ليذهب إلى إحدى القرى يلقى فيها الراحة والهدوء بعضا من الوقت؟ من أين لأبناء الريف بكل هذا السحر والجمال؟! إنه سحر البساطة وجمال الفطرة. عندما يذكر مصطلح الريف فإن أول ما يتبادر إلى الأذهان هو صورة الأرض والخضرة والزراعة واستئناس الحيوانات، ومتانة الصلات بين الناس والبساطة في المشاعر بينهم من دون زيف أو تعقيد، وكذلك بساطة التعبير والتفكير.. إنها البساطة المتجلية في كل حنايا حياتهم، والتي هي الأساس في جعل حياتهم أهدأ وأسعد وأجمل وأعذب، والتي بدورها تشد الأفئدة والأعناق إليها كما تشد الكعبة أفئدة وأعناق المؤمنين إليها. ولمعرفة لمَ حياة أبناء الريف أبسط وأسعد من حياة أبناء المدن سنصحبكم معنا في هذا المقال إلى مقارنات بين النمطين من أنماط الحياة كاشفين عن سر سعادة هؤلاء وتعاسة أولئك.

لماذا يعتبر أبناء الريف أكثر سعادة من قاطني المدن ؟

مشكلة الوعي بين أبناء المدينة وأبناء الريف

يقولون إن العلم نور، نعم هو كذلك، لكن ماذا لو كان هذا النور كاشفا لك عن تفاصيل قبيحة كنت لتكون أفضلا حالا لو توارت عن ناظريك؟ فأنت تدخل غرفة مطفأة الأنوار لتجد نفسك مرتاحا هانئا، فإذا ضغط أحدهم عن زر النور رأيت الفوضى والقبح اللذان تعج بهما الغرفة، ترى أيهما أكثر راحة لديك في هذه الحالة، النور أم الظلمة؟ هذا المثل ينطبق بالتمام على المفارقة بين أبناء الريف وأبناء المدينة. إذ أن الوعي لدى أبناء المدن أعلى بكثير منه عند أبناء الريف، وهذا لا يعني أننا نحض على الأمية أو شيئا من هذا القبيل، لكن الذي نود ملاحظته مع توافر الأدلة القوية عليه هو أن مستوى الوعي يتناسب عكسيا مع مستوى السعادة. فأبناء الريف يعيشون همومهم الصغيرة في اللحظة الراهنة وفي الأسرة الصغيرة، لكنك لا تجد من بينهم من يهتم بأزمة اقتصادية طاحنة ستحل بمعظم أنحاء العالم في العام 2020م مثلا كما يمكن أن يكون الحال عند الرجل المتمدين المتعلم الواعي، أو أن يهتم بأزمة المفاعلات النووية التي تشكل خطرا جسيمًا على مستقبل العالم في المستقبل. من هنا نستطيع أن نقول وبكل تأكيد أن من بين العوامل التي تجعل أبناء الريف أكثر حظا من السعادة هي مستوى الوعي المنخفض لديهم.

الاستهلاك التكنولوجي بين أبناء المدينة وأبناء الريف

تعد التكنولوجيا سمة رئيسة من سمات العصر الحديث، والأدوات التكنولوجية يكثر انتشارها بين أبناء المدينة في حين يندر وجودها بين أبناء الريف. هل تقصد أن ثمة رابط بين انتشار الأدوات التكنولوجية وبين السعادة؟ والإجابة بنعم. إذ أن كل شيء يخرج إلى الوجود كان أمرا عليه مقضيا أن تنشطر نتائجه إلى اتجاهين متضادين، أحدهما جهة الإيجاب، والآخر جهة السلب. وكذا الحال بالنسبة للتكنولوجيا، فإن لها من السلبيات ما لها من الإيجابيات، فمن بين إيجابياتها أن يسرت علينا الكثير من الأمور في حياتنا، ولا داعي للخوض الكثير في إيجابياتها لأن هذا ليس موضوعنا، لكن من سلبيات التكنولوجيا أنها قربت لنا العالم كله لتجعله بين أيدينا جملة واحدة، فهي بذلك جعلت مشاكله وهمومه أيضا بين أيدينا جملة واحدة بالتبعية. هذا من حيث تكنولوجيا الاتصالات، أما من حيث التكنولوجيا من حيث هي، فإن أزمة التكنولوجيا أنها قلصت من دور الإنسان وهمشت من أهميته، فمن ناحية فإن إحساس الإنسان بأهميته ودوره في الوجود يكسبه حظا وفيرا من السعادة والرضا، ومن ناحية أخرى فإن الاستخدام المفرط للتكنولوجيا الذي يتملك أبناء المدينة ولا يمتد إلى أبناء الريف من شأنه أيضا تقليص حركة الإنسان كنتيجة لتقليص دوره, فكثرة الحركة التي يتمتع بها أبناء الريف بسبب اعتمادهم على أذرعهم وأرجلهم في العمل من شأنها إفراز هرمونات السعادة كهرمون السيروتونين الذي يعدل المزاج ويمنع الاكتئاب، و هرمون إندروفينز الذي يقلل الإحساس بالقلق والألم، وكذلك هرمون الدوبامين، وكل هذه الهرمونات يفرزها الجسم بالرياضة والحركة والتي يضطر إليها أبناء الريف بديلا عن التسهيلات التي تقدمها التكنولوجيا لإراحة الإنسان.

مواقيت الصحو والنوم بين أبناء الريف وأبناء المدينة

ومن بين الأمور التي تخلفها التكنولوجيا ونظام المعيشة برمته هي مواقيت النوم والاستيقاظ، فأبناء الريف ينامون مبكرا نظرا لخلو بالهم من الهموم والقلق ومنغصات الحياة، وكذا الحال لعدم سيطرة الأجهزة التكنولوجية على حياتهم كالتلفزيون والكمبيوتر ومواقع التواصل الاجتماعي كما عند أبناء المدينة، الأمر الذي يحيل أبناء المدينة إلى النوم في وقت متأخر من الليل والاستيقاظ متأخرا أيضا على حين يستيقظ أبناء الريف قبل طلوع الشمس. فمن الفوائد التي يجنيها أبناء الريف من وراء النوم المبكر الراحة البدنية والهدوء النفسي، إذ بخلاف ما يعتقد الكثيرين فإن للنوم فوائد جمة للجسم، فهو يتيح الفرصة للمخ ليقوم بعمله على ضبط أجهزة الجسم وإعدادها للعمل بشكل جيد ومتوازن في اليوم التالي، وتتحقق هذه الفائدة بشكل أكبر كلما كان النوم أكثر تبكيرا، وكذلك الاستيقاظ أكثر تبكيرا، والذي يترتب على النوم المبكر من شأنه مد الجسم بالنشاط والحيوية التي تحسن مزاج الإنسان طيلة اليوم.

العلاقات الاجتماعية بين أبناء الريف وأبناء المدينة

من بين الأمور اللافتة أيضا والتي تميز أبناء الريف عن أبناء المدينة، والتي لها دورا بارزا في جعل حياة أبناء الريف أعظم حظا من السعادة -هي قوة الصلات الاجتماعية وجودتها، فأبناء الريف يتمتعون بصلات طيبة فيما بينهم. فهذا رجل فلاح تقع أرضه مجاورة لأراضي أخرى كل منهم قد زرع أرضه بصنف ما من الخضروات، وتجدهم يتبادلون فيما بينهم ما لديهم من المزروعات دون دفع المال، وهذا لديهم أمر طبيعي جدا. وكذا الحال ينطبق على كل مناحي الحياة لديهم وليس فقط على الزراعة. ففي المناسبات تجدهم يصطفون بجوار بعضهم البعض كأنهم يد واحدة وكأن المناسبة -فرحا كانت أو ترحا- هي مناسبة الكل وليست مناسبة أسرة بعينها. وإحساس الإنسان أنه جزء من جماعة أوسع منه يكون هو جزءا منها ينتمي إليها وتلبي له متطلباته عند الحاجة -يجعل الإنسان أكثر استقرارا وشعورا بالأمن والرضا والطمأنينة. بخلاف ذلك في المدينة تجد الرجل لا يعرف جاره أو لا يعرف من الذي يسكن بالشقة التي أمامه في نفس الوحدة السكنية. فغياب الترابط الاجتماعي بين أهل المدينة من العوامل التي تؤثر سلبا بشكل واضح على حالتهم النفسية.

مستوى الطموح عند أبناء الريف وعند أبناء المدينة

ومن المؤشرات التي يمكن أن تقاس بها السعادة لدى أبناء المدينة وأبناء الريف هي مستوى الطموح، فالطموح عند أبناء المدينة مرتفع، وارتفاع مستوى الطموح ينتشل المرء من اللحظات التي بين يديه ويجعله لاهثا وراء هدفه لا يرى من العالم إلا هو، هذا على افتراض تحقق طموحه، فهو ليحقق طموحه أضاع على نفسه الكثير مما يستحق أن يعاش ويعاين. كما أن مع ارتفاع مستوى الطموح ينخفض مستوى السعادة من جراء الإخفاق في تحقيق هذا الطموح، بل يتحول الأمر إلى تعاسة ورؤية سوداوية للعالم. أما بخلاف ذلك فمستوى الطموح عند أبناء الريف بسيط وسهل التحقق، وهو مع ذلك لا يشد إليه الأعناق والأفئدة كما عند أهل المدينة، فهم مع طموحاتهم السهلة اليسيرة ينعمون باللحظة التي يحيونها، ويتمتعون براحة البال وهدوء الأعصاب اللذان يفرضهما إيقاع الحياة الهادئ المطمئن الذي لا يزدحم بكثرة الحاجات والأغراض والطموحات والأماني والإخفاقات في الحياة.

وفي النهاية، كانت هذه إطالة سريعة على عالم الريف البسيط الرائع، والتي ربما يدرك الكثير روعتها دون أن يستطيع تفصيل أسباب هذه الروعة.

ليزا سعيد

باحثة أكاديمية بجامعة القاهرة، تخصص فلسفة، التخصص الدقيق دراسات المرأة والنوع.

أضف تعليق

4 × واحد =