تسعة
الرئيسية » معتقدات وظواهر » دلائل اللون الأسود : ماذا يعني اللون الأسود للشعوب المختلفة؟

دلائل اللون الأسود : ماذا يعني اللون الأسود للشعوب المختلفة؟

تعددت دلائل اللون الأسود بتعدد الشعوب والثقافات، ذلك لما بين مفهومي اللون والدلالة من مواطن اتحاد واشتراك تنحت في ذاكرة الأمم الكثير من الانطباعات

دلائل اللون الأسود

دلائل اللون الأسود لها في ذاكرة العديد من الشعوب بصمات لا تُمحى لما مثلته من مشاعر مختلفة مختلطة، رائعة حينا ومريعة أحيانا أخرى. ذلك أن مفهوم اللون ليس محض عملية فيزيائية من الترددات المختلفة، والتي تخترق شبكية العين فتستقبلها الخلايا المخروطية وتتم بذلك عملية الرؤية وهذا كل شيء وانتهى الأمر. إن مفهوم اللون هو مفهوم إدراك واصطلاح ودلالة بالأساس. وليس أدل على ذلك مما قلناه لتونا من أنه من الناحية الفيزيائية ليس سوى مساحة ضئيلة من الترددات التي يتسع مداها لأكثر بكثير مما تستطيع أي عين لأي كائن حي من أن ترصدها، لكن هذه الترددات يترجمها المخ في النهاية لصور وألوان، وهذه الألوان ليست سوى اصطلاحات اتفق البشر على تسميتها بأسماء معينة كالأسود والأحمر والأصفر… إلخ. بل إن اتفاق البشر على هذه التسميات مرهون بصحة وسلامة كيمياء أدمغتهم وكذلك سلامة أجهزتهم البصرية، وإلا في حالات عمى الألوان لما أخفق المصاب بها في تحديد الألوان بشكل جيد. من كل ما تقدم نستطيع فهم كيف يرتبط مفهوم اللون بمفهوم الدلالة. غير أن الدلالة أيضا هي محض عملية ثقافية وبيئية وحضارية تصنعها الثقافة صنعا وتشكلها ظروف البيئة وسياق التاريخ، وهذه النتاجات الثقافية بدورها تتفاعل مع شخصيات الأفراد الخاضعين لهذه الثقافات، لتفضي في النهاية إلى فرع من فروع علم النفس يدرس انطباعات الألوان ودلالتها على النفس ويقوم بالتالي بمعالجتها، وهو علم النفس اللوني. ناهيك بعد ذلك عن أن الأسود ليس بلون من الأساس، بل هو سلب اللون أو انعدام الألوان، لكننا مع ذلك نطلق عليه اسم: اللون الأسود؛ ذلك أن اللون كما أسلفنا القول ليس محض عملية فيزيائية، وإنما هو بالأساس اصطلاح واتفاق يرتبط بمؤثرات ثقافية أخرى فيكتسب دلالة أو دلالات معينة تصل من كثرتها إلى حد التناقض.

ما هي دلائل اللون الأسود على مختلف الشعوب والثقافات؟

دلائل اللون الأسود في العموم

تعددت دلائل اللون الأسود بتعدد الأزمنة والأمكنة والثقافات، بل تعددت في الزمان والمكان والثقافة الواحدة شأنها شأن جميع الألوان الأخرى. ففي المجمل، اتخذ اللون الأسود وضعا خاصا في عصر الحداثة بعد اختراع آلة الطباعة على يد يوحنا جوتنبرج عام 1447م، ذلك أن اللون الأسود صار لون الكتابة ولون الثقافة والفكر. فباللون الأسود تطبع الصفحات البيضاء بمئات الحروف منه.

كما وُصم اللون الأسود أيضا بدلالات العنصرية، ذلك لما لها من ذاكرة أليمة عميقة دوّى سوء سمعتها في جنبات التاريخ. إذ أن دلائل اللون الأسود لكثير من الشعوب الأفريقية التي اكتوت بنيران الاستعمار والاستعباد والاسترقاق_ هي قرينة العنصرية والتمييز والاستهجان والنبذ. وهذه أيضا من دلائل اللون الأسود التي واكبت عصر النهضة والحداثة بما واكبها من مشروعات استعمارية استعرضت مقدرات الشعوب المقهورة، سواء كانت مقدرات طبيعية أو بشرية.

ومن دلائل اللون الأسود في العموم أيضا، الفخامة والرصانة، حيث أخشاب الآبنوس رفيعة الجودة والمتانة، ومنها تصنع قطع الشطرنج القيّمة والثمينة، كما تصنع التماثيل والمنحوتات، وتصنع منها أيضا مفاتيح البيانو عالي الجودة والرصانة، كما تصنع منه الأثاثات الفاخرة. كما أن من علامات الرصانة والفخامة الغرانيت الأسود الذي تحلى به مداخل وحمامات الأبنية الفخمة الفارهة.

ومن دلائل اللون الأسود أيضا الخصوبة، خصوبة الأرض؛ إذ أن التربة الخصيبة تتميز بلونها الأسود الواعد بالكثير من الإنتاج الزراعي كمًّا وجودةً. كذلك من دلائل اللون الأسود في العموم، الحزم و الرسمية، والشياكة، والغموض، والظلام.

دلائل اللون الأسود في الجزء الشمالي من الكرة الأرضية

يرتبط اللون الأسود في الجزء الشمالي من الكرة الأرضية عموما_ بشهر كانون الثاني/ يناير، ويرتبط أيضا بالنحالة والموضة، كما يرتبط بالاحتراف.

دلائل اللون الأسود عند الشعوب الأوروبية

نظرا لتاريخ أوربا الحافل بالاستعمار والاستعباد والاسترقاق للشعوب الأفريقية جنوب الصحراء الكبرى، فإن دلائل اللون الأسود لديهم مقترنة بالاستهجان والاستبعاد والعبودية والعنصرية، كما تطال دلائل اللون الأسود لديهم عقدة الذنب من جراء ما قام أسلافهم باقترافه في حق الأفارقة من سبي واختطاف واستعباد وظلم وتقتيل ومتاجرة وسخرة… إلخ.

في المقابل، تطال دلائل اللون الأسود في الذهن الأوربي مفاهيم من قبل الحداثة، والغياب، والسلطة، والرسمية، والثروة، والتعقيد، والموضة، والغموض. كما ترتبط أيضا بالشر والموت.

غير أن اللون الأسود في أوربا في الخمس قرون التي أعقبت العام 1000 ميلادية_ اتخذت دلائل بالغة القتامة لما مارسته الكنيسة الكاثوليكية في هذه الفترة من سطوة السلطان، فأشاعت أجواء من الزعر والخوف، ليجسد اللون الأسود كلا من الشيطان والجحيم المجسدان في تماثيل لحيوانات، وهذه التماثيل ملونة باللون الأسود. وكان القط الأسود حينها _قبل استئناثه_ هو أبرز رموز الشر آنذاك.

دلائل اللون الأسود لدى الشعب الأمريكي

كما يُحضِر اللون الأسود في الذهن الأمريكي ذاكرة الحروب الأهلية الأمريكية بما استتبعته واشتملت عليه من تحرير العبيد العاملين بالأراضي الزراعية جنوب الولايات المتحدة الأمريكية، والذي لم يكن يرضي ملاك هذه الأراضي هناك لما تدره عليهم دخولا ضخمة بفضل العمل المجاني الذي يقدمه العبيد إليهم… فكانت الحرب الأهلية الأمريكية بين الشمال والجنوب. كما يحضر اللون الأسود في الذهن الأمريكي (وفي ذهن السود منهم على وجه الخصوص)_ يُحضر عقد الستينيات و”مارتن لوثر كنج” الحائز على جائزة نوبل للسلام، والذي قاد العديد من المسيرات الضخمة المطالبة بمزج السود الأمريكيين للمجتمع الأمريكي مزجا لا تمييز فيه. والقائل عبارته الشهيرة: “أحلم أن يأتي اليوم الذي يحكم أمريكا فيه رجل أسود”، والذي كان “باراك أوباما” تجسيدا لهذا الحلم النبيل.

دلائل اللون الأسود لدى الأفارقة جنوب الصحراء الكبرى

وبالمقابل التام مع دلائل اللون الأسود لدى الشعوب الأورو- أمريكية، فإن دلائل اللون الأسود لدى الشعوب القائمة جنوب الصحراء الأفريقية الكبرى مقترنة بالهوية القومية، فالبشرة السوداء هي التي تجمع هذه الشعوب بعد أن نجح الاستعمار الأوربي في تفتيتهم لغويا وثقافيا. ولم يحدث هذا إلا بعد عصور الاستعمار الأوربي بما خلفته في ذاكرة هذه الشعوب المقهورة من ظلم وقهر واستعباد وعنصرية مردها الأساسي هو اللون.. لون البشرة الأسود. فكان “اللون” هو الأساس والمنطلق لمعظم التيارات النظرية والحركات الفكرية التي ظهرت تعبيرا عن الهوية الأفريقية وتجسيدا لها. فمن هذه الحركات والتيارات من حاول تعريف الأسود (في البشرة) بمن بشرته سوداء، وبعضهم الآخر حاول تعريفه بمن ليست بشرته بيضاء!

دلائل اللون الأسود لدى الشعوب العربية

ارتبط اللون الأسود لدى الشعوب العربية (وبعضا من الدول الإسلامية غير العربية) بأمور عدة، منها أنه لون الحزن والحداد على الأموات، وعند فرقة الشيعة بالأخص (رغم رفضنا للتمييز والتمذهب والفِرَقِيّة)_ يرمز اللون الأسود إلى الإمام الحسين. كما يرمز اللون الأسود عند العرب للثأر والانتقام، ويرمز أيضا إلى الجهامة والجحيم وعلامة الكفار يوم الدينونة إذ ترى وجوههم مسودة. وعلى تمام النقيض، ترى دلائل اللون الأسود مقترنة بالشعر الأسود والعيون السوداء، كما تقترن بالحكمة، نظرا لارتباط الحكمة بالهدوء والصفاء، والهدوء والصفاء مرتبطين بالليل، أي الظلام، والظلام بدوره مرتبط بالسواد. فما الدلالة، كما أسلفنا القول، إلا محض عملية ارتباطات شرطية.

وعند مصر القديمة ارتبطت دلائل اللون الأسود بالجنس والخوف والتمرد والجدية والوحدة والفوضى أحيانا، كما ارتبطت بالحزن، والنهضة والحياة.

ليزا سعيد

باحثة أكاديمية بجامعة القاهرة، تخصص فلسفة، التخصص الدقيق دراسات المرأة والنوع.

أضف تعليق

ثمانية عشر + 2 =