تسعة
الرئيسية » اعرف اكثر » تعرف على » حكمة العرب : كيف كان قدماء العرب حكماء بالفطرة والسليقة؟

حكمة العرب : كيف كان قدماء العرب حكماء بالفطرة والسليقة؟

اشتهر العرب دونًا عن غيرهم من الأمم بالحكمة والأقوال المختصرة التي تحمل في طياتها الكثير من فلسفة الحياة، نتعرف على أهم ملامح حكمة العرب في السطور المقبلة.

حكمة العرب

حكمة العرب في مقابل حكمة الغرب، فما بين الأولى والأخيرة فرق طفيف لفظا، وفرق نقطة كتابة، وفرق ما بين السماء والأرض مضمونا. فالأخيرة كانت عنوان لمؤلف خطّه الفيلسوف والمنطقي والرياضي الإنجليزي “برتراند راسل”؛ وذلك ليسرد فيه تاريخ الفلسفة منذ نشأتها في بلاد اليونان (وهي من البلدان الغربية)، مرورا بالعصور الوسطى الغربية وانتهاءً بالعصر الحديث.. في الغرب أيضا. ومما لا يحتاج إلى بيان أن راسل عندما وضع هذا المؤلف تحت هذا العنوان إنما قصد بالحكمة هنا: الفلسفة، ولئن كان مصطلح الفلسفة هنا يتضمن الحكمة _إذ أن التعريف الحرفي لها هو: “صداقة الحكمة”_ إلا أنه يشير إلى نمط آخر من أنماط الفكر، وهو ذلك الفكر النظري المنظم الذي يهدف إلى تفسير الطبيعة الكونية والطبيعة الإنسانية ضمن أُطُرٍ على حظٍّ عظيمٍ من النسقية والإحكام. غير أن حكمة العرب لم تكن لتمثل هذا اللون من ألوان الحكمة التي مثلها الغرب، وإنما هي مقولات وشذرات متفرقات هدفت إلى إسداء النصيحة أحيانا، وأحيانا أخرى أرادت وصف السلوك الإنساني والتعريف بحقيقته، وهذا الوصف إنما تناول جوانب مختلفة ومتعددة وتم التعبير عنها بطرق كثيرة وعلى ألسنة لا حصر لها من حكماء العرب، وكان يُحسَن بها أن تكون مسجوعة الأطراف شعرا كانت أو نثرا؛ وذلك لتترك في النفس أثرا بليغا ووقعا حسنا، ليسهل هضمها وحفظها والعمل بها.

أهم ملامح حكمة العرب القدماء

بين الحكمة والفلسفة

كثيرا ما تختلط الأمور على العامة من غير الدارسين للفلسفة أو لتاريخ الفكر فيما يتعلق بالتفريق بين الحكمة من ناحية، والفلسفة من ناحية أخرى. إذ أن لكل مجال منهما حدودا واضحة المعالم والقسَمات. ونحن إذ بصدد الحديث عن الحكمة، كان لزاما علينا أن نعرفها ونحدد معالمها أولا. وليس خير وسيلة للتعريف بموضوع من إقران هذا الموضوع مع ضده؛ فالضدُّ بالضدِّ يُعرف.

فعلى حين تشير الفلسفة إلى ذلك النوع من الفكر النسقي المنظم، والذي يحاول ضم وقائع الكون والإنسان والتاريخ في إطاره واصفا ومفسرا لكل ذلك بشكل موسّع ومفصل، تشير الحكمة إلى نوع آخر من الفكر، وهو الفكر المكثف في عبارات بسيطة وموجزة، ناصحا أو واصفا لبعض جوانب السلوك الإنساني دون الكوني.

كما أن من أهم ما يميز الفكر الفلسفي هو عدم التناقض في النسق الفلسفي الواحد أو في المذهب الواحد، بمعنى أنه لا يصح لفيلسوف أن يظهر في بعض كلامه ما يتناقض مع كلام آخر في موضع آخر له.. وإلا انهار مذهبه أو نسقه الفلسفي بأكمله. أما فيما يتعلق بالحكمة؛ فلأنها تُصب في عبارات موجزة، فإنها من الصعب جدا أن تنطوي هذه العبارة على تناقض داخلي، وإنما التناقض يتأتى من مختلف العبارات إذا ما قررنا تنضيدها وإقرانها على طاولة النقد والتحليل. فلكل موقف من المواقف حكمة تلائمه قد تتناقض مع حكمة ملائمة لموقف آخر مختلف. فنحن نقول مثلا: خير البر عاجله، ونقول في موضع آخر: في التأني السلامة وفي العجلة الندامة! وفي هذا تناقض لا يظهر إلا إذا أقرننا الحكمتين ببعضهما البعض. وفي سياق آخر نقول: القرش الأبيض ينفع في يوم أسود، وفي موقف آخر نقول: اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب! وفي سياق مختلف نجد الحكمة تقول في موقف: اعطِ العيش لخبازه، وفي موقف آخر: اسأل مجرب ولا تسأل طبيب!

كما تتميز الفلسفة من الحكمة في أن الأولى تميل إلى التنظير في حين تميل الأخيرة إلى التنظيم، أي التطبيق العملي.. فالحكمة تسدي النصائح وتسلط الضوء على بعض مظاهر الأشياء والسلوك بغية الحرص والحذر، أما الفلسفة فلا يعنيها إلا النظرة الشمولية بعيدة المدى غير عابئة بتفاصيل الأمور.

وتتميز الفلسفة من الحكمة أيضا في أنها تبغي الحقيقة وحدها حتى لو أتى ذلك على حساب سعادة الباحث عنها. فالفيلسوف لا يهمه ما إذا كانت هذه الحقيقة مصدر الصدمات ومنبع الشقاء له، إنه يبتغيها ولو كلفه ذلك هناءه وراحة باله. بينما الحكيم لا يريد بعباراته إلا إنارة الطريق لتجنب الصدمات والعقبات، وهذه الإنارة هي مصدر من مصادر السعادة أيضا ولا تتعارض معها.

وأخيرا، فإن الفلسفة هي نتيجة للبحث النظري الطويل والاستقراء ليس للواقع فحسب، وإنما للماضي الممتد في التاريخ، والنائي الممتد في الجغرافيا؛ بحثا عن الأسباب المؤدية إلى الواقع المعاش، وعقدا للمقارنات والمفارقات بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون. أما الحكمة، فهي خلاصة التجارب الحياتية للحكيم، وهي مرتبطة ارتباطا مباشرا بالواقع البشري الحاضر في الزمان والمكان، أي لا يرجع إلى الماضي في التاريخ، ولا يبرح الإقليم الذي يعيش فيه بحثا عن طباع أناس آخرين.

بين الفطرة والبيئة

يشير الناس عادة للفطرة باعتبارها الطبيعة التي فُطِر الناس عليها. أو هي طبيعة ذهنية معينة فُطِرتْ هكذا، كملكة مزود بها الإنسان عامة، أو مجموعة من البشر امتازت بها عن سائر البشر، أو إنسانٌ فرد تميز بهذه الملكة من دون باقي الخلق. وهذه الملكة قد زُوِّد بها الإنسان بمعزل عن عناصر البيئة المحيطة وتركيبها، ومن قبل اشتباكه مع التجربة. ولكنا نخطئ الخطأ كله حين نعرف الفطرة على هذا النحو، ولست أحدثك عما يترتب على هذه النظرة وهذا التعريف للفطرة من نتائج وآثار فكرية لا نشعر بها على ما يترتب عليها من نتائج مادية واجتماعية هائلة، إنها رفّة الفراشة الذي تحدث الأعاصير! لكنا باختصار سنقول أن الفطرة لا تعني شيئا من قبيل الملكات المسبقة، وإنما هي ليست شيئا على الإطلاق سوى الاستعدادات البيولوجية في جسم الإنسان والحيوان.

ولكن ما الداعي لكل هذا الكلام في معرض الحديث عن حكمة العرب ؟ والجواب باختصار أننا عنْوننا المقال بعنوان فرعي يوافق خلفية القراء المعرفية المسبقة عن الفطرة لتيسير عملية الفهم من أول نظرة، كما يرضي ركنا دفينا في نفس الإنسان، ألا وهو نزعة الأنا، فأنا من أصول مفطورة على الحكمة! لكن من ناحية أخرى وجب مع ذلك توضيح هذه النقطة في معرض المقال لئلا يُضلَّل القارئ الكريم كثيرا.

ولكن إذا كان الأمر كذلك، لماذا امتاز العرب عن غيرهم من الأمم بقريحة فياضة بالحكمة؟ ألا يقوم ذلك دليلا دامغا على أنهم حكماء بحكم الفطرة؟ والإجابة بملء الصوت: لا، بل بحكم البيئة.

حكمة العرب

كانا التمييزان السابقان بين الفلسفة والحكمة من ناحية، وبين الفطرة والبيئة من ناحية أخرى_ كانا خطوات منطقية وحلقات ضرورية لإغلاق السلسلة ولتفسير الإجابة عن السؤال الذي طرحناه أخيرا: ألا يدل امتياز العرب عن سائر الأمم بالحكمة على أنهم كذلك بحكم الفطرة؟ والذي كان ب”لا، بل بحكم البيئة”.

فها نحن أقررنا أن الفطرة ما هي إلا الاستعدادات البيولوجية، وها هم العرب أقواما كسائر الأقوام قد رزقوا بأدمغة قد تماثلت في تركيبها وبنائها التشريحي، وتكوينها الجيني لا يختلف إلا باختلافات طفيفة خلفتها الانحدارات العرقية، لكنها لا تصلح تفسيرا للحكمة عند العرب، وإلا، لمَ لمْ يكن كل العرب حكماء؟

غير أننا نرى تفسيرا أكثر منطقية من تفسير الفطرة، تكون البيئة عمادا له. وليست البيئة كما يشيع في التصورات الذهنية_ مجموعة النباتات والحيوانات والمناخ الذي يسود منطقة ما، وإنما هي إلى ذلك كل ما يحيط منطقة ما من ظروف جغرافية وثقافية وحضارية وكل ما يتبادل التفاعلات مع الإنسان سواء بطريق مباشرة أو غير مباشرة.

وكانت البيئة العربية تتميز بالبساطة والهدوء والاستقرار النسبي، كما تميزت بثقافة واحدة لا تعرف التعددية ولا الاختلاف. وكذلك لم تقم في المنطقة العربية من التحولات التاريخية الكبرى إلا ما أتت به الأديان الثلاث الكبرى من تغيرات لم تؤكد شيئا سوى نبذ التعددية وتأكيد الاتجاه الواحد في الفكر. غير أن الإسلام بما اشتمل عليه من تعاليم تنشد المد السياسي ومن ثم الحضاري_ أتى بتغيرات كثيرة نتيجة هذا المد الذي تضمن الانفتاح على الثقافات الأخرى، فتسنى للثقافة العربية بذلك أن تنفتح على الآخر وأن تشهد تحولات لم تشهدها من قبل في تاريخها. ومن هذه التعددية ومن هذه التحولات ازدهرت الأفكار والتنظيرات وكثرت الترجمة والتآليف في العلم والفكر والفلسفة. وهذا يفسر لنا لمَ نشأت الفلسفة في بلاد اليونان بالتحديد، ثم أُعيد إنتاجها في غرب أوربا مطلع العصر الحديث، حيث التحولات الكبرى في مسيرة الحضارة والمد الحضاري والانفتاح الثقافي على الآخر… إلخ. لكن العرب الأقدمين امتازوا ببساطة الحياة التي تجلت لديهم في بساطة العبارات التي مثلت رؤيتهم للحياة. وكانت حكمة العرب هذه كافية لأن تكون لهم سراجا ينير لهم طرقاتهم البسيطة غير ذات العوج ولا الالتواء. بينما احتاجت الحضارات ذات الثقافات المعقدة لنظريات مفصلة تهديهم سبلهم ذات التعرجات الكثيرة. ففي النهاية، يحتاج العقل البشري إلى الحد الأدنى من القوانين التي تساعده على تنميط فوضوية الوقائع والأحداث بغية السيطرة عليها والتحكم في مجاريها.

أمثلة من حكمة العرب البالغة

وقد ترك لنا التراث العربي فضلا كبيرا حافلا بصنوف من حكمة العرب من أقوال العرب شعرا ونثرا، حتى صارت مضربا للأمثال جاريا على ألسنة العامة والخاصة. وفيما يلي نستعرض غيضا من فيض ما تركه لنا أسلافنا من حكم الحياة؛ علها تنير لنا دياجير الدجى وتكون لنا هاديا وإماما.

بذا قضت الأيام ما بين أهلها مصائب قوم عند قوم فوائدُ… أبو الطيب المتنبي

ما كل ما يتمنى المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن… أبو الطيب المتنبي

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعمُ… أبو الطيب المتنبي

وللصبر إن لم ينفع الشكوُ أجملُ… تنسب للشنفرَى

خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد… أبو العلاء المعري. وأديم الأرض أي تراب الأرض، وهو يوصي في هذا البيت بالتواضع ومجانبة الكبرياء.

إذا امتحن الدنيا لبيبٌ تكشّفت له عن عدوٍّ في ثياب صديق… أبو نواس

ألا ليت الشباب يعود يوما فأخبره بما فعل المشيب… أبو العتاهية

من لم تفده عبراً أيّامه كان العمى أولى به من الهدى… ابن دريد

لا تكن صلبا فتكسر، ولا تكن رطبا فتعصر… تنسب إلى الإمام علي ابن أبي طالب

لا تسقني كأس الحياة بذلة واسقني في عزة كأس الحنضل… تنسب إلى عنترة ابن شداد

إذا غامرت في شرفٍ مروم فلا تقنع بما دون النجوم

فطعم الموت في أمر حقير كطعم الموت في أمر عظيم… أبو الطيب المتنبي

والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاعة وإن تفطمه ينفطم… الإمام البوصيري

كن كالنخيل عن الأحقاد مرتفعا يُرمَى بالصخر فيُلقي بأطيب الثمر… الإمام الشافعي

خذ ما تراه ودع شيئا سمعتَ به في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحلِ… أبو الطيب المتنبي

تعبٌ كلها الحياة فما أعجب إلا من راغب في ازدياد… أبو العلاء المعري

ما حك جلدك مثل ظفرك فتولَّ أنت جميع أمرك… الإمام الشافعي

من كرمت عليه نفسه، هانت عليه الدنيا… الإمام أبو حنيفة

تريدين لقيان المعالي رخيصة ولا بد دون الشهد من إبر النحل

ذريني أنلْ مالا ينُال من العلا فصعبُ العلا في الصعبِ والسهلُ في السهلِ… أبو الطيب المتنبي

ليزا سعيد

باحثة أكاديمية بجامعة القاهرة، تخصص فلسفة، التخصص الدقيق دراسات المرأة والنوع.

أضف تعليق

ثلاثة × اثنان =