تسعة
الرئيسية » حياة الأسرة » أمور الاسرة » قوة الملاحظة : كيف ننمي مهارة الملاحظة في أبنائنا منذ الصغر ؟

قوة الملاحظة : كيف ننمي مهارة الملاحظة في أبنائنا منذ الصغر ؟

مهارة قوة الملاحظة من المهارات شديدة الأهمية والنفع في حياة كل منا، لذلك كانت هذه المهارة إحدى أهم المهارات التي علينا أن نعلمها لأبنائنا.

قوة الملاحظة

قوة الملاحظة من بين أهم العلامات الدالة على حدة الذهن واتقاد الذكاء؛ لذلك كان العمل على إزكائها وتنميتها في أبنائنا أمرا غاية في الأهمية، لاسيما أننا في عصر مصطخب بالموضوعات والأحداث من حولنا ومن ثم ازدحام المثيرات الواردة على العقل من قبل الحواس والتي لا يمكن للحواس أن تخبر عن صورة صادقة للعالم الخارجي إلا بالإلمام بقدر كبير من هذه المثيرات والتفاصيل التي يصطخب بها العالم الخارجي، ومن ثم تنقلها إلى للعقل الذي بدوره يقوم ببناء صورة كلية عن العالم -لبناتها هذه التفاصيل. وتعتمد قوة الملاحظة بالأساس على مدى قدرة العقل على رصد هذه التفصيلات التي تعج بها البيئة من حولنا، ومن ثم فهي القاعدة الأساسية للذكاء والإبداع الإنسانيين واللذان يقومان على عمليتي الربط والتحليل بين هذه التفاصيل التي تقوم عملية الملاحظة برصدها، وما من عملية إبداعية يقوم بها العقل البشري إلا وتقوم على هذا الثنائي المتلازم: الربط والتحليل، البناء والتركيب، لتمسي قوة الملاحظة أمرا ينبغي تسليط الضوء عليه لكل أب وأم أرادا أن يعملا على تنمية مهارات التفكير المنطقي والإبداعي لدى أبنائهم، وليعي الآباء والأمهات أن الأبناء ليسوا مجرد كتل لحمية خاملة أتت نتيجة المتعة ليس إلا، وإنما هم محملين برسائل جاؤوا بها إلى الوجود لينحتوا بصمات الحضارة عن طريق أكثر خاصة تميز الإنسان بها عن سائر الكائنات: العقل.

أسس تعليم أطفالنا قوة الملاحظة

قوة الملاحظة

تعد قوة الملاحظة -كأي مهارة أخرى- من الخبرات التي يمكن تعلمها والتدريب عليها، فكما أن المهارات البدنية يمكن اكتسابها بالتدريب، كذلك المهارات العقلية في معظمها يمكن اكتسابها أيضا بالتدريب والتعليم، ولا يكون منها بالوراثة أو البيولوجيا إلا القليل، كما أن المهارات البدنية ليس منها بالوراثة إلا القليل. فقوة الملاحظة مهارة كغيرها من المهارات يمكن أن تنمى بالتمرين والتدريب، كما يمكن أن تضعف وتثبط بانعدام أو ضعف التمرين؛ لذا يلزم لاكتساب هذه المهارة لأبنائنا التحلي بالمثابرة والصبر والجهد والوقت.

نوم كاف، وغذاء صحي

من أول الأمور التي ينبغي للوالدين الحرص عليها لتنمية قوة الملاحظة لدى أبنائهم هي كفاية النوم وجودة الغذاء لدى أبنائهم؛ فالنوم الجيد يرفع من مستوى التركيز ويعمل على صفاء الذهن واتزان التفكير، ومن ثم استعدادا أعلى لتلقي المثيرات الخارجية التي تخبر عن تفاصيل، والنوم الكافي للطفل يكون ثمان ساعات متواصلة أثناء الليل، وينبغي الحرص على غرز ثقافة النوم مبكرا والاستيقاظ مبكرا في أبنائنا. كما أن من بين الأمور المفروضة على الآباء تجاه الأبناء لينشؤوا بقدرات عقلية رائعة وأذهان مستعدة هو الغذاء الجيد، والغذاء الجيد يبدأ مع الطفل وهو جنين بتغذية الأم جيدا، ثم وهو طفل رضيع، حيث يشدد الأطباء على ضرورة الرضاعة الطبيعية للأطفال لمدة لا تقل عن ستة أشهر، فلبن الأم مهم جدا لغذاء الدماغ، وقد أكدت الأبحاث أن الأطفال الذين لم تتح لهم فرصة الرضاعة طبيعيا، أو رضعوا لمدة لا تتجاوز الشهر، يسجلون مستوى أدنى في القدرات العقلية عن أقرانهم الذين رضعوا طبيعيا. وبعد انتهاء فترة الرضاعة ينبغي للأبوين التأكد من تناول ابنهم وجبة الإفطار، فهي مهمة جدا لتحفيز الدماغ للعمل، كما ينبغي الحرص على تكامل العناصر الغذائية وخصوصا الداعمة لوظائف عمل الدماغ كالمعادن والفيتامينات والبروتينات، فالأغذية الغنية بالبروتينات ترفع من مستوى القدرات العقلية؛ لأن تناولها يزيد من إفراز الأدرينالين، الأمر الذي من شأنه أن يمكن من التركيز والتفكير بشكل سليم وجيد، ومن ثم رفع قوة الملاحظة لدى الأبناء. كما ينبغي إبعاد الأبناء قدر المستطاع عن الأطعمة الجاهزة والوجبات السريعة الغنية بالسكر والدهون.

ممارسة الرياضة

ومن الأمور المحرضة أيضا على رفع قوة الملاحظة هي ممارسة الرياضة بشكل دائم، فعلى الأبوين أن يهتما بالبناء البدني والحرص المستديم على اللياقة البدنية لدى أبنائهم؛ فالرياضة لا تعمل فقط على تقوية البنية الجسمية، وإنما هي تعمل أيضا على تعزيز القدرة الذهنية للدماغ، كما أن الرياضة تعمل على إفراز هرمون يدعى “الإيريسين” في الدماغ، والذي من شأنه إنتاج الخلايا العصبية في الدماغ وتعزيز الترابط الشبكي بين هذه الخلايا، كما يحميها أيضا من التلف والموت. كما أن هذا الهرمون -هرمون الإيريسين- يعمل على تنشيط الموصلات العصبية وخصوصا في منطقة في الدماغ تعرف بقرن آمون، والذي بدورها تعمل على نقل المعلومات من الذاكرة قصيرة الأمد (المعلومات التي لا تنتظر في الذاكرة سوى بضع ثواني) إلى الذاكرة طويلة الأمد؛ ومن ثم يكون لها الدور الظاهر في تحفيز عمليتي الذاكرة والتعلم، ومن ثم رفع كفاءة وقوة الملاحظة.

ممارسة التأمل/ الميديتيشن

تعد ممارسة التأمل من بين الأمور الهامة التي تعمل على زيادة قوة الملاحظة، والتي من الممكن ترويض أبناءنا عليها كعادة جيدة قبل كل شيء منذ أن يبلغوا طور القدرة على الالتزام بالقواعد والقوانين والآداب العامة. فالتأمل في جوهره يعتمد على الهدوء وتصفية الذهن من كل محتوياته وما يعكره من قلق أو اضطراب أو مخاوف أو حتى أفكار تراوده. والطريقة الصحيحة لممارسة التأمل هي الاستواء ممدودا على الفراش أو الاستواء على كرسي بحيث تكون الزوايا التي يصنعها الجسم أثناء الجلوس زوايا قائمة، فما بين الفخذ والجذع زاوية قائمة، وما بين الفخذ والساقين أيضا زوايا قائمة، ويكون الجلوس في حالة استرخاء تام مع إغماض العينين وإحصاء جميع الأصوات التي تحيط بنا أثناء عملية التأمل، كصوت المروحة مثلا أو صوت سيارة عابرة، ويفضل الاعتزال بمكان التأمل عن جميع الأصوات قدر الاستطاعة؛ فهذا أفضل، مع تشغيل موسيقى هادئة بالجوار على حسب الرغبة، وبعد حصر وإحصاء جميع الأصوات بما فيها صوت الموسيقى يتم، خياليا، حذفها تماما من الذهن والتركيز فقط على الأنفاس الداخلة والخارجة عبر الأنف… الشهيق والزفير، ويتم هذا التمرين لمدة تتراوح بين 20 دقيقة إلى 30 دقيقة.

وهذا التمرين يمكن تدريب أبناءنا عليه اعتبارا من سن العاشرة، وإن كان الابن أكثر نضجا وانضباطا وهدوءا يمكن أن يمتثل له من سن الثامنة، ويمكن لمن يجدون فيه صعوبة -وهو سيكون صعب في البداية- أن يعتبرونه شيء كالصلاة، ولكن بدلا من خمس مرات في اليوم والليلة يمكن أن يكون مرة واحدة في اليوم كحد أقصى إلى مرة في الأسبوع إلى مرتين في الأسبوع كحد أدنى. ومن شأن هذا التمرين أن يصفي الذهن ليشحذ قدرته على الملاحظة والتركيز والانتباه للمثيرات الواردة من الخارج، فقوة الملاحظة تحتاج أيما حاجة إلى قدر كافي من صفاء الذهن من التشويشات التي تخلفها اصطخاب المثيرات، فكما أنك لا تستطيع أن تضيف شيئا إلى كوب ممتلئ، كذلك لا تستطيع أن تضيف شيئا من المثيرات إلى ذهن ممتلئ مشوش.

تحفيز الجزء المنطقي من الدماغ

من الممكن تدريب عقول الأبناء على الأشياء المنطقية التي تعمل على تنمية سرعة البديهة وكذا الحال قوة الملاحظة، وهذه التدريبات من شأنها العمل على تمرين وتحفيز الجزء المنطقي في المخ، ومن بين هذه التمرينات ألعاب المنطق وحل الألغاز والتي تشمل ألعاب السودوكو والشطرنج وألعاب أخرى كثيرة تكون الخاصة المميزة لها هي الاعتماد على الذكاء وقوة الملاحظة واستخدام المنطق، والسودوكو والشطرنج تحديدا خير من يمتاز بهذه الخصائص، فيكفي أن تعلم أن عدد الألعاب المحتملة للشطرنج يفوق عدد ذرات الكون بأكمله! وكل هذه الألعاب متوفرة الآن وبشدة، وهي من سهولة الحصول عليها بحيث يمكن تحميلها على أجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية التي باتت في متناول كل يد، وبدلا من استخدامها استخداما ضارا يمكن تحويل مسار الاستخدام لاستخدامات نافعة وهادفة، ويكون ذلك بتوجيه الآباء لأبنائهم ومتابعتهم وإرشادهم.

القراءة وقوة الملاحظة

ليست عملية الملاحظة مجردة هكذا من الخلفيات المسبقة، فأنت إذا قلت لشخص ما: لاحظ! لأجابك متسائلا: وماذا ألاحظ؟ فإذا أنت مضطر لأن تعيّن له موضوعا للملاحظة، كأن تقول له لاحظ شكل السحب المتراكمة على شكل فيل مثلا. إذن الملاحظة لابد لها من خلفية في الذهن يتم مطابقتها بشيء في العالم الخارجي، فأنت عندما تلاحظ أن شكل السحب يعطي شكل الفيل فهذا يعني أن لديك خلفية ذهنية عن صورة الفيل، أما شخص لم يرَ فيلا من قبل فلن يلاحظ أن تركيب السحب على بعضها يعطي شكل الفيل.

من هنا نريد أن نقول أنه لكي نرتفع بقوة الملاحظة لدى أبنائنا لابد لنا من توسيع مداركهم لتشمل خلفيات وصورا ذهنية أكثر ما يستطيع الذهن أن يشمله، ولا أظن شيئا يفعل ذلك بخير مما تفعله القراءة؛ فالقراءة تورد العقل عوالم وتطوف به في آفاق لم ولن يطوف بها العقل يوما، لذا فعلى الأبوين أن يحرصا على تشجيع أبناءهما على القراءة منذ الطفولة، وتكون البداية بإعادة العادة القديمة التي كان يفتعلها الآباء والأمهات، وهي قراءة القصص لأطفالهم قبل النوم، فما أن يبدأ الطفل في النضج شيئا فشيئا حتى ينفتح ذهنه وتنفتح حواسه على العالم يريد أن يسأل ويستكشف ويقرأ ويستخبر كل لحظة المزيد عن العالم، ويجب على الأبوين أن يكونا مستعدان بالصبر والمعرفة الكافية ليستطيعا أن يجيبا عن تساؤلات ابنهم، ومن هذه التساؤلات تكون الفرصة لشراء الكتب المبسطة لهم والتي تشبع فضولهم وتحرضهم على القراءة والاطلاع وتتيح لهم سعة الأفق وتعمل على توليد تساؤلات جديدة تتطلب إجابات أخرى، وهكذا تدور عجلة التفكير وينمو المستوى العقلي ويرتفع الذكاء عن طريق كثرة الربط بين المعلومات والإجابات المضافة كل يوم وتصطخب الصور الذهنية التي تستعد لأن تُقابل بما يطابقها في العالم الخارجي؛ فيسجل العقل مستوى أعلى في قوة الملاحظة.

خوض التجارب

من بين الأخطاء الجسيمة التي يجنيها الآباء في حق أبنائهم ومن ثم يأتي ذلك على حساب قواهم الذهنية -تكبيلهم بأغلال المحاذير، فكل خطوة يخطوها الطفل يجد صراخ الأم وزجر الأب يلاحقانه بحجة الخشية عليه من الأخطاء التي تؤدي به إلى إيذاء نفسه. ولسنا نعني بذلك ترك الطفل ليفعل ما يحلو له مع الاحتمالات الكبيرة للإيذاء، وإنما نعني إعطاءه الفرصة ليخطئ ويتعلم من خطئه، إعطاءه الفرصة لأن يكسر لعبة ما ويصلحها ثانية أو لا يصلحها، فهذا قد يحزن الأبوين على خسارة مادية تكبدوها في شراء هذه اللعبة، ولكن هذا من شأنه تعزيز غريزة الاكتشاف لدى الطفل وإنماء الخبرات لديه؛ فليست القراءة وحدها -والتي أسلفنا الحديث عنها- من شأنها إنماء الخبرات وتعزيز الصور الذهنية التي هي عماد عملية الملاحظة، وإنما إلقاء الطفل أيضا في خضم التجارب ليعاين كل شيء بنفسه ويجربه على نفسه بدلا من مجرد السماع عن الشيء أو قراءة عنه؛ لذا كان لزاما على الأبوين التخلي عن الخوف الزائد والحذر المبالغ فيه تجاه أبنائهم، ودعوة الأطفال إلى أن يخوضوا ويجربوا، يصيبوا مرة ويخطئوا مرات عديدة، فهذا من شأنه أن يرفع كفاءة الطفل الإدراكية ويعمل على تحسين ورفع قوة الملاحظة لديه.

وفي النهاية

أبناءنا أمانة في أعناقنا، فلا أقل من أن نتعلم كيف نعلمهم، ونقرع كل باب يحاول أن يقدم لنا إجابة شافية عن كل ما من شأنه تحسين نوعية وجودة الإنسان الذي اؤتمنّا عليه.

ليزا سعيد

باحثة أكاديمية بجامعة القاهرة، تخصص فلسفة، التخصص الدقيق دراسات المرأة والنوع.