تسعة
الرئيسية » اعرف اكثر » منوعات » كيف انحدرت الثقافة العربية من ذروتها إلى القاع؟

كيف انحدرت الثقافة العربية من ذروتها إلى القاع؟

تحولت الثقافة العربية من قمتها إلى القاع ومن احتواء كافة الثقافة إلى الاضمحلال والإشراف على الموت، فما السبب في ذلك؟ وكيف يمكن الإصلاح؟

الثقافة العربية

تعبير الثقافة العربية عن نظام اجتماعي سائد بكل ما يحمله من معتقدات وعادات وتربية وتعليم، وهي أسلوب حياة تحافظ على الثقافة وتنقلها من جيل لآخر، وهي مجموع ما يصدره الأفراد من إنجازات فكرية أو علمية أو أدبية أو فنية في العالم العربي، وتُعتبر الثقافة مصطلحا مراوغا، يشمل اللغة والدين والعادات والتقاليد والخبرات والأفكار والرؤى، إضافة لكونها مفهوما يوضح أصالة الكلمة في اللغة على وجهيها الحقيقي والمجازي.

تعد الثقافة العربية من أغنى وأهم الثقافات العالمية، وترجع جذورها إلى ثقافة ما قبل الإسلام، أو ما اشتهر في تاريخ الأدب بالعصر الجاهلي، وتكونت من مجموعة كبيرة من الحكم والخطب والقصائد والأمثال، صاغ العرب خلالها صورة حياة العربي بوضوح وعمق.

بعد ظهور الإسلام وانتشاره في الجزيرة العربية كإحدى منطلقاتها لباقي ربوع الأرض، ونقلوا علوم العالم القديم بالترجمة ونقل الثقافات الشفهية والفنية بالاختلاط، وامتازت الثقافة العربية بكثرة المحققين، وقصاص الآثار، ما نقاها من الشوائب والتدليس ومحاولات الانتحال.

وللثقافة العربية مكونان رئيسيان لا يمكن فصلهما، الإسلام واللغة العربية، فاللغة وعاء لكل العلوم، وأداة للفهم والتعبير، وأهم وسيلة للتأثير على العقل عبر الشعور بحكمتها وآدابها، والإسلام يوسع هذه المفاهيم ويفتح آفاقا جديدة للثقافة لم تكن موجودة قبل الإسلام.

جهود إحياء الثقافة العربية

ترتبط الحضارة ارتباطا وثيقا بالثقافة؛ إذ لا يمكن أن تنشأ حضارة إلا بثقافة حية تجعل من الحضارة تقدما، ومن الممارسات عادات وتقاليد، ومن الأفعال العادية موروثات إنسانية تتوارثها الأجيال جيلا بعد جيل، وتتعدى الثقافة حدود المحلية وتتواصل مع غيرها من الثقافات كجزء من الحضارات المصدرة أو المستوردة، وهذا لما حدث مع الثقافة العربية التي أنتجت الحضارة الإسلامية التي استمرت ما يزيد عن أربعة عشر قرنا عبر الزمن، وما زالت تتوسع وتتجذر في المجتمعات الحديثة، وارتبط ازدهار الثقافات بقوة الدولة وضعفها، فمتى ضعفت الدولة انحدرت الثقافة، ومتى قويت الدولة ازدهرت الثقافة وزاد نشاطها وإنتاجها وإسهامها في خدمة الحضارة التي تبنيها الدولة وتساهم فيها الثقافة بنصيب وافر.

ومع ضعف الدول وانهيار الحضارات، لا تستسلم الثقافة بل تحارب من أجل إبقاء الحضارة حية تنبض ولا تنتهي لتكون هي المناضل الوحيد الذي واجه الاضمحلال المستشري في المجتمعات، لكنها تُصاب طبقا لقاعدة التأثير والتأثر باضمحلال نسبي يزداد في بداية الانحدار وبعد القيام، ويقوى في فترات الانحدار التام وعقب الاستقرار النسبي.

وبرزت مدرسة الإحياء والبعث كأشهر الحركات التي اهتمت بإحياء الأدب العربي في العصر الحديث، واتخذت من الإحياء اسما لها حتى تكون كالروح التي تعود للجسد فتبعثه من موته حيا من جديد، واستطاعت مدرسة الإحياء بقيادة محمود سامي البارودي وأحمد شوقي وغيرهم من أعلام هذه المدرسة أن يعيدوا للأدب العربي هيبته من جديد وأن ينزعوا عنه لباس الاضمحلال والضعف الذي ارتداه منذ سقوط بغداد في يد التتار، الذين خربوا دور العلم في حاضرة الخلافة آنذاك.

بداية الانحدار وثورة الإحياء الجديدة

وتوالت المدارس التي استكملت النشاط الإحيائي لمدرسة الإحياء حتى قامت ثورات التحرير في أربعينيات وخمسينات القرن الماضي فاضمحلت من جديد شعبيا، وحلت مكانها الثقافات الشعبية التي ابتذلت الثقافات وانهارت على إثرها، فانتشر الغناء الشعبي والأغنية القائمة على الشعوبية والانقسام بالتدوين بالعاميات المختلفة والنبطي، ما أدى لتشرذم الثقافة العربية وتحولها لتكتلات داخل كل مجتمع.

عاودت الثقافة العربية إحياءها من جديد منذ بداية ثمانينيات وتسعينيات القرن ذاته عبر محاولات جادة انتقلت فيها المدارس سريعا من الاشتراكية الواقعية إلى الحداثية وما بعدها، ليكتب الأدباء والنقاد بيديهم وروحهم وإحساسهم فصلا جديدا من فصول الإحياء، استغل كل الوسائل الحديثة من تلفزيون وإنترنت، وقديمة مثل الندوات والصالونات ليعيد الثقافة من جديد إلى الجمهور بعد أن حوصرت في فئة النخبة المثقفة، التي لا تحرث إلا في المحروث وتنفخ في قربة ممتلئة بالهواء، وتسكب الماء في كوب فاض فيه الماء لكنه لا يفيض على من حوله.

واتسعت الثقافات انتشارا حتى أصبح لكل مدينة وقرية وزقاق منتدى أدبي، وصار تذوق الأدب كتذوق الفن المسموع والمرئي في أوساط العامة- حتى وإن تفاوتت درجات التذوق بينهم- ويعود الفضل في ذلك بجوار جهود الأدباء والنقاد إلى التكنولوجيا الحديثة، وانتشار البرامج الثقافية، خاصة ما اهتم منها بإقامة المسابقات التنافسية بين الأدباء، وهو ما يتيح للعامة فرصة الاستماع والتذوق؛ نظرا لجماهيرية أسلوب العرض.

إحياء الثقافة العربية

تتعدد الجهود الإحيائية، التي تستهدف إعادة الثقافة العربية إلى مجدها التليد، الذي تبوأته طيلة عهدها بالحياة منذ العصر الجاهلي وحتى سقوط بغداد، ومن بداية البعث الحديث على يد محمود سامي البارودي والمدرسة الإحيائية وحتى منتصف خمسينيات القرن الماضي، ولم تخلُ محاولات البعث الحديثة من طفرات جعلت صاحبها في صدارة مدرسة بعثية، حتى وإن كانت تجربة وحيدة، مثل التجربة النزارية، التي نشأت على يد الشاعر السوري نزار قباني، الذي أعاد ترسيم معنى الشعر والأدب وحوله من أدب النخبة إلى أدب العامة من جديد، وحوَّل جمهوره من عدة آلاف متمركزين في التجمعات الأدبية والمراكز الثقافية والنوادي العلمية إلى العالم العربي باتساعه وجمهوره الذي وصل لنحو 150 مليون عربي وقتها.

تميزت تجربة نزار قباني الأدبية الفريدة بانقلابها على السريالية العميقة في وجدان الأدب العربي، وانتقل لتحرير الشعر العربي من قيوده، فأسس مدرسة اتفق علماء اللغة والنقاد على تسميتها بالمدرسة النزارية- نسبة إليه-؛ إذ اعتبر نزار قباني أن القارئ شريك له في كل ما يكتبه، وأن الأديب المنعزل عن المجتمع أديب يعيش لنفسه ويموت بنفسه دون أن يكون أثر في مجتمع متعطش لإثراء ثقافته.

ولم يكن نزار وحده الذي سعى لإيصال الأدب إلى الجمهور العربي، فحارب كتاب الأدب المنثور للارتقاء بالثقافة العربية، ما جعل هذا العصر عصر النثر بامتياز، أو قُل إن شئت عصر الرواية، ونشأت فن الرواية في العالم العربي بعد انتشار البعثات التعليمية إلى البلاد الغربية منذ أوائل القرن التاسع عشر، لكن الرواية في بدايتها تميزت بالسذاجة وكانت بدايتها كتاب تلخيص الإبريز في تخليص باريز لرفاعة الطهطاوي، واستمر فن الرواية في التطور حتى وصل لمرحلة متقدمة، سُميت بمرحلة الرواية الفنية والتحليلية، ما مكن نجيب محفوظ من نيل جائز نوبل في الأدب عن إحدى رواياته ليسبقه ويتبع مجموعة من الكتاب الذين حرفوا أسماءهم من نور في تاريخ الثقافة العربية.

أساليب عملية للنهوض بالثقافة العربية

ولإعادة الثقافة العربية إلى مكانتها من جديد يجب أن نتبع أسلوبا علمية في إعادتها للحياة من جديد، بحيث تستمد من عنصريها مفتاحا لعودتها من جديد:

  • اتخاذ الإسلام مصدرا رئيسيا للنهوض، ومنهلا عذبا للثقافة، وتعتبر الثقافة الإسلامية إحدى المكونات الأساسية للثقافة في العام العربي، وقد تتخذها بعض البلدان مصدرا أوحدا للثقافة.
  • العودة للغة العربية معينا صافيا للصور والخيال، والإبداع التعبيري عن الحقيقة والمجاز، ومسوقا فعليا لكل العلوم والآداب، ووعاء لكل المشاعر والتصورات.
  • التقليل من اللهجات التي تشرذم المجتمعات وتضيق مساحة انتشار الأفكار في الإطار الإقليمي للهجة المقدمة للثقافة.
  • توفر إرادة سياسية راغبة في النهوض بالثقافة ومكافحة الاضمحلال والتردي، وتوفر هذه الوسيلة قوة الدفع التي لا تقف عند حد، وتملك إمكانيات مادية قادرة على تحريك دفة الإبداع نحو التميز.

محمد الجداوي

أضف تعليق

3 × واحد =