تسعة شخصيات

لويس باستير مبتكر البسترة : عظيم صنعته المأساة

مبتكر البسترة لويس باستير .. عظيم صنعته المأساة

لوي باستير هل ذلك الاسم يذكرك بشئ تعرفه؟.. نعم إنه يتشابه كثيراً مع مصطلح “البسترة”، وهي عملية معالجة الحليب التي تجرى عن طريق تسخين وتبريد السائل، ومن ثم تؤدي إلى القضاء على الجراثيم والبكتيريا الضارة الناشئة به، فيصير بذلك آمناً للاستخدام ولا يمثل أدنى خطورة على صحة الإنسان، ومصطلح “بسترة” لن تجد له أي مدلول في أي قاموس، وذلك لإنه ما هو إلا مصطلح مشتق من اسم العالم الفرنسي لويس باستير ،الكيميائي العبقري والمتخصص في دراسة الأحياء الدقيقة، والذي ساهمت اكتشافاته في جعل هذا العالم مكاناً أفضل، وبفضله انخفضت بنسبة كبيرة نسب الوفيات الناتجة عن التعرض للأمراض الجرثومية.

لوي باستير .. من هذا :

لوي باستير هو العظيم الذي صنعت المأساة عظمته، هو الرجل الذي كرس حياته لإنقاذ البشر، من خلال دراسة العوامل المسببة للمرض وسبل الوقاية منها، فكيف كانت نشأة هذا العالم العظيم؟، وما المآسي التي تعرض لها، والتي قادته إلى هذا الطريق الذي أوصله للتعرف على طرق الوقاية والتطهير، والتي لازلنا نستخدمها حتى يومنا هذا.

الميلاد :

كان جان جوزيف باستير يعمل رقيباً ضمن صفوف جيش القائد الفرنسي نابوليون، وبعد انقضاء مدة خدمته العسكرية بالجيش، بحث عن وظيفة أخرى يتكسب منها وتعينه على الحياة، فلم يجد فرصة عمل إلا بمجال دباغة الجلود، وقبل بها على الرغم من أنه كان يتقاضى عنها أجر بخس، وهناك تعرف على السيدة جان إتيان روكي، وتزوجا وعاشا معاً  في بلدة آريبوس الصغيرة المتفرعة من مدينة دول في فرنسا، وفي عام عام 1822م وتحديداً في يوم 27 لشهر ديسمبر استقبلا طفلهما الثالث واسماه لويس باستير

النشأة :

“حرمان وفقر” هاتين الكلمتين تصلحان ليكونا عنواناً لطفولة لويس باستير ،فوالديه كان يعملان بمجال لا يدر عليهما الكثير من المال، ولهذا فقد عرف الشقاء والحرمان منذ نعومة أظافره، لكن ما كان يُسليه عن ذلك هو إنهما قد أحاطاه بحنانهما ورعايتهما، وكانت روابطهم الأسرية قوية ومتينة، ولعل الهدية الأكبر التي أهداه والده إياها، هو إنه كان لديه كافة المبررات والأعذار كي لا يرسل طفله لويس باستير لتلقي العلم، أو على الأقل كان يمكنه الاكتفاء بإلحاقه بالمدرسة الابتدائية فقط، لكنه كان حريص على الاقتصاد في المصروفات الشخصية والمنزلية، ليوفر النفقات اللازمة لإتمام لويس لتعليمه حتى مرحلة الدراسة الجامعية.

التعليم :

 عند بلوع لويس باستير سن السادسة تقريباً ألحقه والده بإحدى مدارس القرية لتلقي العلم، وكان لويس باستير ذو تحصيل متوسط خلال سنواته الدراسية الأولى، لكنه في وقت لاحق أظهر براعة في فنون الرسم والتصوير، ثم أرسله والده إلى باريس ليواصل دراسته في دار المعلمين، لكن أصاب لويس باستير مرضاً شديداً منعه من مواصلة الدراسة، وحين تعافى كانت قد فاتته فرصة استكمال الدراسة بدار المعلمين، فقام والده بإلحاقه بالكلية الملكية والتي حصل منها على ليسانس الآداب في 1840م، وفي ذات الوقت كان قد تخصص في دراسة الرياضيات، وبعد عامين فقط من حصوله على الليسانس حصل على بكالوريوس العلوم.

زواجه من لوران ماري :

في عام 1847م حصل لويس باستير على درجة الدكتوراه، وبناء عليه تم إلحاقه بالعمل في جامعة ستراسبورغ كأستاذ لمادة الكيمياء، ولكنه حصل من الجامعة على أكثر من تقدير وراتب شهري مجزي، فقد حصل منها على حب حياته ورفيقة رحلته، فخلال عمله التقى بابنة رئيس الجامعة لوران ماري، ونشأت بينهما صداقة وتقاربا بدرجة كبيرة حتى انقلبت علاقتهما من صداقة إلى حب، وفي التاسع والعشرين من مايو عام 1849م أعلانا زواجهما، وعاشا معاً حياة مستقرة هادئة وأنجبا من الأطفال خمسة.

مأساة لويس باستير ووفاة أطفاله :

الحب دافع والرغبة دافع والحاجة إلى الأشياء دافع، لكن من بين الدوافع على اختلاف أنواعها، تبقى المآسي هي الدافع الأكبر للإنسان نحو الإنجاز، ولعل لويس باستير هو أكبر دليل على صدق ذلك التحليل أو القول، فقد انجب لويس باستير وزوجته لوران ماري خمسة أطفال، وباعتبار موت الطفل هو أشد المصائب التي قد تنزل بالآباء، فلنا أن نتصور كيف كان حال لويس باستير وقد نزلت به تلك المصيبة ثلاث مرات، فقد فقد الوالدين ثلاثة من أطفالهم نتيجة إصابتهم بداء التيفوئيد، ومصائب كهذه عادة ما تدفع الأشخاص إلى الاكتئاب والانزواء وربما الانتحار، لكن الأمر عادة يكون مختلفاً بالنسبة لأصحاب الروح المثابرة المقاتلة المتحدية على الدوام، وقد كان لويس باستير من النوع الثاني، فأعلن تحديه لمرض التيفوئد وقرر القضاء عليه كما قضي على أطفاله الثلاث، ومنذ ذلك الحين كرس حياته لمكافحة الجراثيم والفيروسات.

إنجازه العلمي :

مأساة لويس باستير كانت سبباً في أنقاذ ملايين البشر، فقد كرس أبحاثه لدراسة سبل النجاة من الجراثيم الفاتكة بالأرواح، ونتاج ذلك كانت التوصل لآلية تنفيذ عملية البسترة، وهي معالجة الحليب ليصبح آمناً منزعاً من الجراثيم المسببة للأمراض، بجانب العديد من الاكتشافات الأخرى، وإسهاماته في التوصل لطرق مكافحة الأوبئة مثل الكوليرا وغيرها، بالإضافة إلى وسائل وكيفية القيام بعمليات التعقيم والتطهير، التي تسبق إجراء العمليات الجراحية.

أثر اكتشافاته العلمية :

اكتشافات لويس باستير العلمية استفادت منها البشرية جمعاء بشكل كبير، فحين جاء هذا الرجل إلى الحياة كانت الأمراض منتشرة والأوباء متفشية، تحصد ملايين الأرواح في كل عام، وحين رحل عنها كان قد تركها خلفه أكثر أمناً من ذي قبل، فقد ساهمت اكتشافات لويس باستير العلمية في خفض نسب الوفيات، وذلك لإنه لم يسع إلى التوصل إلى لقاحات علاجية كأغلب علماء عصره، إنما كان هدفه الأول هو الوصول إلى تطعيمات وتلقيحات مضادة، تغذي جهاز المناعة البشري فتجعله أكثر قدرة على مكافحة الأمراض، وتمكن من التوصل إلى اكتشافات مضادة لداء الكلب وحمى النفاس والجمرة الخبيثة وغيرها.

التقدير العلمي :

في الزمان الذي وُلِد ونشأ فيه لويس باستير لم تكن الجوائز العلمية معروفة، أو بمعنى أدق ليست منتشرة كما هي اليوم، ولا شك إنها لو كانت كذلك لكان لويس باستير قد حصل على العديد منها، لكن في النهاية قد حاز لويس باستير على تقدير زملائه ومُعلميه وطلابه خلال حياته، وبعد وفاته هو مُخلد في ذاكرة التاريخ كأحد العلماء الذين ساهموا في إنقاذ البشرية، وقد تم تكريمه بعد وفاته عدة مرات فتم إقامة النصب التذكارية له، وتم إقامة العديد من المنشآت العلمية التي تحمل اسمه، بجانب الكتب المتعددة التي صدرت متناولة لسيرته وحصاده العلمي، وأشهرها كتاب بعنوان ” لويس باستور وعلم الجراثيم” الذي صدر في 2004م ضمن سلسلة علماء عباقرة، والذي انتجته مكتبة العبيكان من تأليف لويز إي روبنز.

الوفاة والدفن :

بعد بلوغ لويس باستير لعمر الأربعين بدأ حالته الصحية في التقهقر والتراجع، فأصيب بعدد من الأمراض بعضها مصنف كأمراض مزمنة، بجانب تعرضه المتكرر للإصابة بحالة من السكتة الدماغية، والتي تعرض لها للمرة الأولى في عام 1868م، وكان عمر لويس باستير آنذاك ستة وأربعون عاماً، واستمرت معاناته مع ويلات المرض لفترة زمنية طويلة نسبياً، إذا إن إصابته المتكررة ظلت تلاحقه حتى عام 1895م، وبذلك العام استسلمت روح لويس باستور المقاتلة للمرض، وتوفي متأثراً بمضاعفات السكتات الدماغية وآثارها الجانبية، وتم تشييع جثمانه في جنازة مهيبة تليق بمكانته العلمية، وكنوع من التكريم له وتعبيراً عن الامتنان لإسهاماته في إنقاذ البشرية، تم دفن جثمان العالم الجليل في كاتدرائية نوتردام، ولكن في وقت لاحق على ذلك، تم نقل رفاة العالم لويس باستير إلى قبو معهد باستير لدراسة علم الأحياء.

سيرة حياة

أضف تعليق