تسعة مجهول
الحرب الباردة
الرئيسية » الغاز » الحرب الباردة : ملف كامل عنها وتأثيراتها على العالم

الحرب الباردة : ملف كامل عنها وتأثيراتها على العالم

الحرب الباردة واحدة من أهم المؤثرات التي ساهمت في تشكيل العالم بالشكل الذي نعرفه اليوم، نستعرض في هذا المقال الكثير من المعلومات عن هذه الحرب وتأثيراتها.

الحرب الباردة واحدة من أهم المؤثرات التي ساهمت في تشكيل العالم بالشكل الذي نعرفه اليوم، نستعرض في هذا المقال الكثير من المعلومات المفصلة عن هذه الحرب وتأثيراتها. الحرب الباردة واحدةً من أهم عوامل تشكيل الحاضر وعالم اليوم الذي نعيش فيه، ورغم طغيان صيت الحربين العالمية الأولى والثانية على صيت الحرب الباردة عند عامة الناس إلا أن الحرب الباردة التي أتت في أعقاب الحرب العالمية الثانية كانت هي فصل الختام على العالم القديم، وبابًا للمستقبل فُتح للعالم ليبدأ العالم الجديد الذي نراه ونعيش فيه في التكون قطعةً قطعة حتى صار كما هو عليه اليوم، إن من يريد أن يبدأ في فهم عالم اليوم والدول والسياسات والتعاملات الدولية المختلفة وسبب كل مظهرٍ من مظاهر السياسة ونتائجها الذي نراه اليوم هو بلا شكٍ بحاجةٍ إلى أن يعود للبداية والمنشأ، ويجد النقطة التي بدأ العالم القديم بالانهيار عندها وتشكلت ملامح العالم الجديد، الحرب الباردة التي استمرت لأربعة عقودٍ ونصف العقد من الزمن كانت عملية تجميلٍ عميقة لوجه العالم خرج بعدها في حلةٍ مختلفةٍ تمامًا، كانت حرب قوى وتضارب مصالح وفرض سيطرة وإعلاء كلمة بين القوتين العظمتين في ذلك الوقت الولايات المتحدة الأمريكية والدب الروسي أي الاتحاد السوفييتي، وتصاعدت فيها الأوضاع حينًا وهدأت أحيانًا أخرى، لم تؤثر الحرب الباردة في العالم تأثيرًا فجائيًا ساحقًا وإنما كان كل عامٍ من أعوامها الخمسة وأربعين يمر يغير ركنًا من أركان العالم بسلاسةٍ وهدوء إن جاز لنا التعبير عن بعض الأزمات والفظائع والخسائر البشرية بلفظ السلاسة والهدوء، لكن مقارنةً بالدمار الشامل الذي كاد أن يسقط فيه العالم لو أن الحرب العالمية الثالثة قامت بين القوتين العظمتين فالحرب الباردة كانت شديدة السلمية! إن الحرب الباردة كانت بداية.

الحرب الباردة ، وملف كامل عنها

ما قبل البداية.. نهايات الحرب العالمية الثانية

كانت الحرب العالمية الثانية ونهايتها وتبعاتها هي بداية الحرب الباردة لكنها لم تكن أبدًا بداية الخلاف والصراع بين أكبر مجنونين شهدهما العالم أميركا والسوفيات، فالصراع بينهما كان يبدو كأنه صراعٌ أزليٌ منذ القدم ومنذ وجودهما معًا على وجه الأرض، إلا أن الحرب العالمية الثانية أتت وهبت معها رياح الجنون النازي التي بدأت باكتساح العالم بمذابحها لينسى العدوان اللدودان خلافاتهما ويقفا جنبًا إلى جنب ضد ألمانيا النازية واليابان وإيطاليا التي شكلت دول المحور.

انتهت الحرب العالمية الثانية بفوز الحلفاء وهزيمةٍ ساحقةٍ مذلةٍ لدول المحور وسحقٍ تامٍ للفكرة النازية والقضاء عليها، لكن الانتصار لم يعنِ قط أنه جاء بلا خسائر، تركت الحرب العالمية الثانية العالم في حالة دمارٍ شامل والبلاد في حالة استنزافٍ وضياع، وكانت أوروبا ساحة المعركة أكثر المتضررين من ذلك الوضع والذين عانوا لسنين من تبعاته، لكن القوتين العظمتين بعد خلو الساحة إلا منهما كانتا متربصتين لبعضهما البعض وتسعيا لمد السلام بعد الحرب على كل الدول المحطمة التي تدمرت تحت وطأة الحرب، وكان مد السلام ذاك لا يعني سوى تقسيم العالم بينهما! ما عنى تنافسًا وصراعًا خفيًا ووقوفًا في صفوفٍ متعادية خوفًا من تفوق الطرف الآخر في أي لحظة ما سيخوله لحمل شعار القوة العظمى وإخضاع الآخر لسيطرته، فكلٌّ منهما كانت تدرك أنهما الوحيدتان المتبقيتان على وجه العالم اللتان تستطيعان فرض القوة والسيطرة على العالم بأكمله إن أرادت.

وكان تهالك الدول من حولهم يعني فرض نظمٍ وأيديولوجيات للسلام والاستقرار سعت كلٌ منهما لفرضه وإيجاده بالطريقة التي تخدمها وتخدم مصالحها، لم تكن أوروبا المتضررة الوحيدة فعلى الجانب الآخر من العالم كان دخان النيران يتصاعد من خراب آسيا خاصةً اليابان التي كادت أميركا تمحيها تمامًا من على وجه الأرض بقنبلتيها النوويتين، وبجوارها الصين التي شكلت ورقةً رابحةً ولعبةً كبيرةً خلال الحرب الباردة.

كيف خرجتا من الحرب

صحيحٌ أن كلا القوتين ظل صامدًا وثابتًا في المدين بعد تساقط الجميع إلا أن الفرق المهول في الخسائر بينهما كان فادحًا، فالخسائر التي تكبدتها الولايات المتحدة الأمريكية التي تباطأت في الانضمام لدول الحلفاء وحسم الصراع لجانب الكفة الأقوى لم يعادل سوى اثنين بالمائة فحسب من الخسائر البشرية والمالية ودولية التي تكبدها الاتحاد السوفييتي خلال حربه الشرسة مع النازية.

على الجانب الآخر كانت اليابان عدوًا شرسًا للولايات المتحدة الأمريكية وكبدتها الخسائر الفادحة التي اضطرت الولايات المتحدة لقصفها بالقنبلتين النوويتين هيروشيما وناجازاكي لدفعها للاستسلام، لكن ذلك العدو الشرس أعطى للسياسة الأمريكية عدة دروسٍ مفيدة في كثيرٍ من المجالات أهمها كان مجال الدفاع والتسليح بعد أن أيقنت القارتان الأميركيتان أن المحيات الفاصلة بينهما وبين نصف العالم الآخر في عصر الطائرات لم تعد خط دفاعٍ ذا قيمة وإنما باتت الولايات المتحدة في حاجةٍ لدفاعاتٍ عسكرية أكثر قوةً وأمانًا، كما أعطت الحرب درسًا في الإدارة الاجتماعية والاقتصادية للولايات المتحدة التي استفادت لأقصى حد من تلك الدروس، وجعلتها طريقها لحكم العالم.

وعلى الجانب الآخر كانت أملاك الاتحاد السوفيتي مترامية الأطراف وضعيفة الدفاعات لترامي أطرافها وحدودها وإحاطتها بدولٍ غير مستقرة تحاول أن تلملم شتاتها مرةً أخرى وتستفيد من دروسها وأخطائها وتجد سبيلًا للوصول لحكم العالم قبل أميركا، كانت بولندا والسيطرة عليها وجعلها حليفًا قويًا بالقمع لا بالتراضي أولى تلك الخطوات على طريق القوة.

غرس جذور الحرب الباردة

بدأ إدراك القوتين العظمتين لخطر تصارعهما ونزاعهما يميل بهما لجانب محاولة الاتفاق والتحالف، لكن الأمر لم يكن بتلك السهولة أبدًا فنزاعاتهما وخلافاتهما السابقة حالت بينهما وبين إقامة تحالفٍ قويٍ وثابت، وإنما كان تحافهما هشًا مزعزع الأركان يشوبه الشك والعدوانية وتنعدم فيه الثقة، خاصةً أن تحالفهما أثناء الحرب العالمية الثانية كان مدفوعًا بهدفٍ مشترك وهو القضاء على ألمانيا النازية ودول المحور إلا أن تحقيق ذلك الهدف جعل محاولة التحالف فاشلة لانعدام هدفٍ مشتركٍ جديدٍ يتحملان لأجله بعضهما.

أدى ذلك إلى محاولة تقسيم العالم بينهما وكان الاتحاد السوفيات حاصلًا على نصيب أوروبا الشرقية يعيث فيه فسادًا كيفما شاء، كانت تمت اتفاقياتٌ بين الطرفين يحاولان من خلالها وضع ملامح عالم ما بعد الحرب وكان أبرزبنود تلك الاتفاقيات هي الحرية الديمقراطية في تأسيس الطبقة الحاكمة لكل دولةٍ من الدول الأوروبية التي تم اعتبارها محررة، لكن الاتحاد السوفييتي أخذ بكسر ذلك البند مرارًا وتكرارًا في أوروبا الشرقية بأعمالها السادية والوحشية وفرضه السيطرة على الدول تباعًا، مما أثار حنق وحفيظة الحكومة الأمريكية خاصةً أن الاتحاد السوفييتي كان ممثل الشيوعية التي تعاديها وتبغضها الولايات المتحدة، وكان غرضه الديكتاتوري نشر الشيوعية وفرضها على نصيبه من دول أوروبا الشرقية، ظلت الولايات المتحدة في محاولاتٍ مستميتة لكبح جماح غضبها ومحاولة الحفاظ على العلاقات الودية مع الدب الروسي إلا أن تغيرًا في الرئاسة الأمريكية كان مسارًا جديدًا في تاريخ تلك العلاقة.

حكومة ترومان

كان ترومان قد أمسك برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية وعلى عكس سابقه الذي مال للصبر وإرساء العلاقات الودية مع الروس كان ترومان يميل أكثر للاستماع لتلك الأصوات التي تطالبه بالشد على يد الروس وردعهم وعدم ترك المجال لهم حتى لا يظنوا أنهم أصحاب السيادة والكلمة الأولى، كانت الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى قد شكلتا صديقين وحليفين قويين حاولا فيه أن تبدو علاقات التحالف والسلمية متساويةً بين كل الجهات، إلا أن العلاقات كانت باطنيًا تحالفًا بين أميركا وبريطانيا ضد الروس.

وتم عقد واحدٍ من أكبر الاجتماعات بين الثلاثة على أرض ألمانيا التي كانت مقسمةً ومشتتةً بينهم ويُعتبر ذلك الاجتماع في التاريخ هو نقطة تقسيم أوروبا لنصفين شرقي وغربي رسميًا، كان ترومان يعمد إلى الضغط على الروس وجعلهم ينفذون ما يريد استنادًا على ثقته ببلاده وبطاقتيها الرابحتين اللتين تعطيها التفوق والتقدم على الروس وهو التقدم الاقتصادي الذي كان يعاني الاتحاد السوفييتي في ذلك الوقت من أزماته، والأسلحة النووية التي كانت أميركا تثبت فيها تفوقًا وجدارةً لا مجال للشك فيهما.

واستنادًا على ذلك بدأ ترومان بالنظر للاتحاد السوفييتي على أنه انتهازيٌ مستأسد لا يشبع وكانت بريطانيا تشاركه الرأي، ولم يتورع كلٌ من الدولتين في الجهر برأيه صراحةً في المؤتمرات ما زاد العلاقات تخلخلًا وسوءًا، وكان أكبر أسباب خوف الأمريكيين والبريطانيين من الروسيين يكمن في عملياتهم التوسعية التي تسعى لسيطراتٍ اقتصادية واجتماعية والتي بدا لهم أنها تهدف لإنشاء تحالفٍ شيوعيٍّ قوي قد يكون قادرًا على قلب موازين القوى في غير صالح الولايات المتحدة الأمريكية.

حرب السيطرة

كانت تلك المخاوف هي بداية حرب وسباق السيطرة الذي تنافس فيه كلٌ من الأمريكيين والسوفيات في محاولة كلٍّ منهما لفرض سيطرتها على دولٍ تخدم مصالحها من بقية أنحاء العالم بدايةً بأوروبا ثم ما بعدها حتى دول الشرق الأوسط وصولًا إلى دول شرق آسيا، وكانت الولايات المتحدة تعمل على انتهاز كل الفرص التي تسقط لها من القوة البريطانية التي كانت تمر ببضعة أزماتٍ سببت تقلص نفوذها الاستعماري في بعض الدول فسارعت أمريكا تسبق الاتحاد السوفيتي للسيطرة عليها وجذبها لجانبها لضمان أقصى استفادةٍ من خبيراتها واقتصادها ومواردها.

كانت أميركا تقوم بخطواتها تلك بذكاء فلم تكن تفرض نفسها على الدول بدافع الاحتلال والاستعمار وإنما كانت تقدم مساعداتٍ لتلك الدول لمساعدتها على بناء حكوماتها وأنظمتها السياسية الحاكمة الخاصة بها ما جعل جموع الجماهير تميل لكفة ترومان والحكومة الأمريكية، لم تكتف الحكومة الأمريكية بذلك فحسب وإنما ضربت ضربةً جديدةً حينما دعت دول أوروبا المتهالكة المنهارة اقتصاديًا وعرضت عليهم الدعم المادي والمساعدات الاقتصادية لإعادة بناء أنفسهم، بينما سارعت أوروبا الغربية للانضمام لذلك العرض أصاب الروس التخوف من فقدان سلطتهم على دولهم الأوروبية ما جعل ستالين الذي كان ممسكًا بالحكم وقتها يمنع أوروبا الشرقية من الاستجابة للعرض الأمريكي أن الانضمام إليه.

كانت ألمانيا المقسمة بين المعسكرين نقطة جدلٍ واسعةٍ بينهما على مر السنين وكان أكبر مخاوف الأميركيين هو إعادة توحيد ألمانيا وانضمامها للجانب السوفيتي لكنها برغم ذلك كانت حريصةٌ على نهضة ألمانيا الاقتصادية وتعافيها من أهوال الحرب التي أصابتها لأن قوة ألمانيا لم تكن من القوى التي يمكن الاستهانة بها تحت الرقابة طبعًا، ما أدى إلى خلافٍ عميقٍ وقع بين الروس والأمريكيين والبريطانيين بشأن رغبة التحالف الأخير بضم ألمانيا لبادرة المساعدات الاقتصادية بينما رفض الروس ذلك بشدة، ما أدى إلى تقسيم ألمانيا لحزبين منفصلين أحدهما شرقي تابعٌ للروس ممنوعٌ من برنامج الإعانات والثاني غربي تحاول أميركا وبريطانيا وفرنسا النهضة به اقتصاديًا.

وهو ما جعل ستالين يقدم على خطوةٍ حمقاء حاصر بها برلين الغربية ومنع الأمريكيين والبريطانيين من الوصول إليها ثم بعد فترة تبين حماقة فعله ولا جدواه ففك الحصار الذي كانت نتيجته الوحيدة توسيع الهوة في العلاقات بين الاثنين، بدا الانقسام بعد ذلك واضحًا وبارزًا بشدة في أوروبا التي خضع نصفها تحت وطأة عدوان وقوة وبطش الروس لتتشكل الامبراطورية الروسية، بينما النصف الآخر مال بإرادته وتلاقي مصالحه مع الولايات المتحدة للتحالف معها وتكوين امبراطورية حلفاءٍ قوية أمريكية.

آسيا تحترق بجليد الحرب الباردة

بعد أن تم تقسيم أوروبا بين القوتين العظمتين وتأسيس امبراطوريتين كبيرتين كانت أنظار كلتا الامبراطوريتين تتجه بنهمٍ باتجاه آسيا العامرة بالخيرات التي من شأنها ترجيح كفة القوة لإحدى القوتين وتغيير المصير تمامًا، ما دفع الاثنين لنقل صراعاتهما وخلافاتهما من الأراضي الأوروبية للأراضي الآسيوية، وفي تلك الفترة كانت الأوضاع في عدة دولٍ آسيوية وبخاصةٍ الصين وكوريا لا تنبئ بالخير أبدًا ما جعل تدخل السوفيات والأمريكيين كفاعلَي خيرٍ أمرًا يسيرًا.

قبل الحرب العالمية الثانية كانت الكثير من الدول الآسيوية خاضعةً لاستعمار الرجل الأبيض ولكن ما إن قويت شوكة اليابانيين وزادت سطوتهم وتوحشهم فإن سعيهم الأول كان طرد الاستعمار الأوروبي وفرض الاستعمار الياباني على كل دول آسيا ما زاد من نفوذ اليابان كثيرًا، لكن استسلام اليابان كان نقطة تحولٍ جوهرية في تاريخ الدول الآسيوية جميعًا فكانت تبعات ذلك الاستسلام الطبيعية أن سقطت سلطة ونفوذ اليابانيين على دول آسيا تاركةً الفرصة للتيارات القومة الانتهازية التي رأت في ذلك فرصةً ثمينةً لإنشاء حكوماتٍ وطنية وأن تحكم كل دولةٍ نفسها بنفسها بعيدًا عن سطوة الاستعمار الإنجليزي والياباني.

بجوار اليابان كانت تقبع الصين كحليفٍ منهكٍ من الثورات والحرب الأهلية الطاحنة القائمة فيه للاتحاد السوفيتي، وحليفٍ مرتقبٍ لأميركا التي تمنت الحصول على السطوة واليد العليا في الصين بعد حصولها على اليابان، وكان ذعرها وخوفها من الصين ينبع من نقطتين الأولى كانت انتصار الحزب الشيوعي في حرب الصين الأهلية والثانية كانت العلاقات الوثيقة بين الصين واليابان والتي خشيت على أثرها أن تضيع اليابان من قبضتها.

كانت الولايات المتحدة قد أدركت قوة اليابان وأهمية السيطرة عليها وضمها لامبراطوريتها مثلها تمامًا مثل ألمانيا، لذلك سعت لنفس الاستراتيجية التي أنشأتها في ألمانيا الغربية بإعادة بناء البلاد اقتصاديًا واجتماعيًا وبكل جوانبها في تحالفٍ ظاهريٍ مصور بينها وبين الحكومة اليابانية لكن الواقع أنها كانت تحكم اليابان فعليًا من وراء الستار، ومن جانبٍ آخر حرصت على تقويض القوة العسكرية اليابانية خوفًا من تمردها عليها.

الصين

كان الصراع قديمًا في الصين عمره يزيد عن عقدين من الزمن بين الحزب الشيوعي المضطهد والمطارد وحزب الكومينتانج الحاكم في ذلك الوقت، وكان انتصار الحزب الشيوعي سببًا في قلب موازين الحكم والأمور من نواحي كثيرة، بل إنه كان سببًا في اتخاذ الحرب الباردة مجرى جديد، كان الحزب الشيوعي استغل فترة الاحتلال الياباني ليقوى ويزداد في النفوذ العسكري والسياسي بل أنه تجاوز ذلك للسيطرة على بعض المناطق في شمال ووسط الصين، لكن بعد سقوط الاستعمار الياباني قامت الحرب المرتقبة بين الشيوعيين الذين كان يدعمهم الاتحاد السوفييتي خلسةً وحزب الكومينتانج الذي كانت الولاية المتحدة تحرص على دعمه بكل قوتها وعدتها وعتادها في مواجهة الحزب الشيوعي ومحاولة القضاء عليه والحفاظ على الصين في حالة حرب، متخوفةً من انتصار الحزب الشيوعي ووقوع الكارثة المحققة بالتحالف الصيني الياباني الذي يهدد أملاكها وسيطرتها.

وكان حرصها قد وصل لأعلى الدرجات حتى أنها قامت بتملق الحكومة الصينية ومجاملتها واعتبار الصين واحدةً من قوى العالم العظمى التي ستساهم في تغيير مصير العالم، على الجانب الآخر كان الاتحاد السوفييتي يدعم الشيوعيين لكن ليس بدرجةٍ قوية لأن ستالين كان راغبًا في الحفاظ على الصين متفرقةً ضعيفة وأن يظل الحزب الشيوعي الصيني معتمدًا ومرتكنًا على قوة السوفيات ومحتاجًا لها، متخوفًا من اللحظة التي قد يتحول فيها الحزب الشيوعي إلى الاستقلال والمطالبة بالحكم الكامل لنفسه.

كان فوز الحزب الشيوعي في أنظار العالم ليس مجرد فوز أحد طرفي صراع حربٍ أهلية في إحدى الدول وإنما نظر إليه العالم أجمع على أنه انتصارٌ ساحقٌ للجانب السوفيتي والشيوعي على الولايات المتحدة والكومينتانج، حتى أن الكثيرين من داخل الولايات المتحدة أنفسهم كانوا ينظرون إلى الأمر بهذا الشكل وظلت الحكومة الأمريكية لفترةٍ تترقب أي فرصةٍ تمد فيها يد التعاون والسلام للصين لتأمن جانبها لكن من الواضح أن الحكومة الشيوعية الصينية كانت منجذبةً للحكومة السوفيتية.

الحرب الباردة تجتاح جنوب شرق آسيا وسياسة العالم الجديد تزدهر

صحيحٌ أنه في بداية الحرب الباردة كان اهتمام القوتين العظمتين منصبُا على أوروبا وما يحدث فيها ومحاولة فرض القوة والسيطرة ولم يحاول أحدهم النظر إلى شرق آسيا أو إعطاءها أدنى اهتمام، لكن التطورات التي حدثت في الصين والسيطرة على اليابان جعلت قارة آسيا محط الأنظار للقوتين العظمتين وأنشأت سباقًا بينهما للحصول على القوى الأكبر، خاصةً بعد أن أصبحت أكبر دول القارة الآسيوية مساحةً وتعدادًا سكانيًا الصين مواليةً ومحالفةً للاتحاد السوفيتي ما دعا الولايات المتحدة للاهتمام ومحاولة موازنة كفة القوى في القارة الآسيوية.

كانت الصراعات قائمةً بين الاستعمار الغربي والحركات القومية الوطنية في الدول الآسيوية رغبةً من الغرب في استعادة السلطة والاستعمار ثانيةً، إلا أن أميركا تقدمت للدول الغربية الحليفة لها بالنصائح الذهبية تسألهم أن يتبعوا استراتيجيتها وخطاها في سياسة العالم الجديد بإعطاء الدول حريتها الشكلية والسعي في تعين حكومةٍ مواليةٍ لمصالح دول الاستعمار في الغرب، كانت إنجلترا أسرع المستجيبين للنصيحة الأمريكية وحصلت الدول الآسيوية على استقلالها وهو ما جعل للولايات المتحدة الأمريكية وسياستها شعبيةً كبيرةً بين الدول الآسيوية، بينما ظلت فرنسا وهولندا على تصميمهما على موقفهما ورغبتهما في استعادة فيتنام وإندونيسيا استعادةً تامة، وهو ما جعل فيتنام وإندونيسيا تلتمسان المساعدة من السياسة الأمريكية الديمقراطية والتي كانت تحاول جاهدةً التزام الحياد لكيلا تستعدي أيًا من الطرفين لكنها باطنيًا كانت تناصر حلفائها الغربيين ما جعلها تقابل الطلب الآسيوي بالتجاهل.

عاد الرفض بالسوء على الولايات المتحدة عندما أصيبت فيتنام بالإحباط فاتجهت لطلب المساعدة من القوة العظمى الأخرى وبدأ يتشكل تحالفٌ صينيٌ سوفيتيٌ فيتناميّ.

كوريا تشتعل

كانت حرب كوريا الأهلية نقطة تحولٍ كبرى في تاريخ الحرب الباردة ومسارها بل إن البعض كان يعتبرها نقطة التحول في تكوين تاريخ ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكان لها من الآثار التغيرية الجذرية على سلطة ونفوذ الولايات المتحدة ودفاعاتها وتسليحها حتى أن الدبلوماسي تشارلز بولين كان يقول أن الحرب الكورية لا الحرب العالمية الثانية هي ما جعل الولايات المتحدة قوةً عسكريةً عالية، فذلك الصراع عجل عملية تقوية حلف شمال الأطلسي وتسليح ألماني وطور النظام الدفاعي الأمريكي كما أنه كان السبب في بداية تمركز القوات الأمريكية على الأراضي الأوروبية، ويقول وارين آي كوهين واصفًا التغيير الكبير الذي أحدثته الحرب الكورية “هي حربُ غيرت من طبيعة المواجهة السوفيتية الأمريكية، وغيرتها من منافسةٍ سياسيةٍ منتظمة إلى نزاعٍ أيديولوجي عسكريّ يهدد بقاء كوكبنا ذاته”.

كان ما حدث أنه في أحد الأيام وبدون سابقة إنذار استيقظت كوريا الجنوبية لتجد هجومًا مباغتًا لقوات كوريا الشمالية عبرت فيه حدودها وبدأت معها حربًا ضروسًا، وهو ما أثار فزع وغضب الأمريكيين لأنهم علموا أن كوريا الشمالية لم تكن لتقدم على خطوةٍ كهذه دون المساعدات الصينية السوفيتية، فسارعت بدورها لتقديم العون والمساعدات لكوريا الجنوبية معلنةً في خطاباتها سخطها على سياسة الشيوعية الجديدة التي تنص على استعمار الدول الأخرى بقوة السلاح، ورغم استمرار الحرب الكورية لثلاثة أعوامٍ وانتهائها بعودة كل منهما لنصفه إلا أن الحرب الكورية شكلت بدايةً جديدةً لشكل الحرب الباردة وضمنت لها حضورًا دائمًا على الأراضي الآسيوية وتشكيلًا واضحًا لأطراف النزاع.

تغيرٌ في الحكومات وخفة حدة الصراع

كانت بداية ومنتصف الخمسينيات من الفترات التي شهدت تغيرًا في سياسة العلاقة الروسية الأمريكية بسبب تغير الحكم في الاثنتين، فبعد ستالين وترومان جاء اثنان كانا ناقمين وغير راضيين على السابقين لهما وكلٌ منهما غير راضٍ بطريقته، كان أيزنهاور الذي خلف ترومان يرى في سياسته تراجعًا وتخاذلًا وعدم حزمٍ مع الروس، بينما كان خروشوف نقمًا على السياسة الباطشة العدوانية التي كان ستالين يتبعها وخرج خروشوف بسياساتٍ جديدة، يدعو في تلك السياسات للتعايش السلمي مع الرأسمالية، كانت سياسات خروشوف مثيرةً للريبة والحيرة ما دعا بعض دول أوروبا الشرقية تحاول اختبارها أملًا في الحصول على استقلالها وحكوماتها القومية الوطنية الخاصة، فبدأت بعض حركات التمرد والثورة كان أشهرها وأعنفها الثورة المجرية حين أعلنت العصيان الكامل وانسحبت من حلف وارسو الذي كان الاتحاد السوفيتي قد قام بإنشائه، عندها كان خروشوف يستنفد آخر قطرات صبره وتسامحه فقرر القضاء على الثورة المجرية بالقوة العسكرية وسحقها تمامًا وهو ما حدث له بالفعل، ولم يكن من الحكومة الأمريكية إلا أن تغض الطرف عن تلك المذبحة الوحشية محاولةً تجنب الاحتكاك بالاتحاد السوفيتي والتدخل في سياسته مع إحدى الدول التابعة له بالأساس.

سباق التسليح

كان سباق التسليح الدائر بين القوتين العظمتين واحدًا من أهم جوانب وأركان ومحركات الحرب الباردة التي مارساها طوال عقودٍ من الزمن، شمل سباق التسليح كل جوانب الدفاع والهجوم بدايةً من عدد جنود الجيوش وهو ما تفوق فيه الاتحاد السوفيتي باكتساح وصولًا للأسلحة العادية وبخاصةٍ النووية، وهو الجانب الذي انطوى على تفوقٍ كبيرٍ للولايات المتحدة الأمريكية والتي حافظت على مسافةٍ فاصلةٍ منتظمةٍ بينها وبين التقدم النووي السوفيتي، فدأبت على تطوير القنبلة الهيدروجينية بقوةٍ تزيد عن القنابل التي ضربت هيروشيما وناجازاكي آلاف المرات، ومن جهةٍ أخرى كانت تعمل على تطوير صواريخها النووية بدايةً من تلك التي تستطيع ضرب الأهداف السوفيتية من مواقعها على الأراضي الأوروبية انتهاءً بتطوير الصواريخ عابرة القارات التي تستطيع أن تخفي مراكز سوفيتية مهمة من الوجود بانطلاقها من مواقع في الولايات المتحدة نفسها، وتحقق في عهد إيزنهاور حلو الولايات المتحدة بحيازة الثلاثي القاتل من الأسلحة النووية من القاذفات والأرض والغواصات.

على الجانب الآخر كان الاتحاد السوفيتي يحاول جاهدًا مواكبة التقدم النووي الأمريكي والوصول لدرجته وقاموا باختبار أولى قنابلهم الهيدروجينية في تلك الفترة بنجاح، وظل كفاحهم مع التقدم حتى استطاعوا في أوائل الستينات توفير الصواريخ البالستية عابرة القارات وتشكيل تهديدٍ لا بأس به للولايات المتحدة نوويًا، كان هذا السباق النووي المحموم رغم الرعب الذي أثاره في العالم وقتها واحدًا من أسباب صبغ العلاقة السوفيتية الأمريكية بنوعٍ من الهدوء والاستقرار لعلم الطرفين أن أي احتكاكٍ حربيٍّ بينهما ستنشأ عنه حربٌ عالميةٌ ثالثةٌ نووية، وهو ما كان كابوس العالم أجمع في ذلك الوقت لأن الحياة قد تختفي من على الأرض تمامًا كنتيجةٍ حتميةٍ لحربٍ كهذه.

فترة أزمات

كانت نهاية الخمسينيات وبداية الستينات فترة صراعٍ متهور بين الطرفين بأتها الصين بقرارها المتهور حين تحدت الولايات المتحدة الأمريكية وأغضبتها معلنةً استعدادها لتلقي الهجوم العسكري من أميركا حتى لو كان نوويًا، وعلى الجانب الآخر استجابت الولايات المتحدة لاستفزاز الصين وبدأت تعد العدة لقصف المواقع الصينية العسكرية بالأسلحة النووية محدودة المدى، وهو ما دعا الاتحاد السوفييتي للتدخل والحيلولة دون ذلك القصف وتهديد أميركا بأنهم يملكون السلاح النووي والقنابل الهيدروجينية أيضًا وهم على أتم استعدادٍ لاستخدامها.

وبعض انقضاء تلك الأزمة أثار الاتحاد السوفيتي أزمة برلين والرغبة في جعلها أرضًا محايدةً وإلغاء تسليحها وأمام الرفض من الجانب الآخر والشد والجذب لم يجد الطرفان بدًا من المهادنة، كادت المهادنة أن تبدأ لكنها انتهت سريعًا حين قام الاتحاد السوفيتي بتحطيم طائرة تجسس للولايات المتحدة كانت الحكومة الأمريكية تستخدمها للتجسس على المواقع العسكرية والنووية الحساسة للاتحاد السوفيتي وهو ما أدى لتصاعد الأزمات مجددًا، وفي ذلك الوقت اختفى إيزنهاور من على الساحة ليظهر الرئيسي الأمريكي الجديد جون كيندي ويعيد السوفيات إثارة أزمة برلين ثانيةً.

أزمة الصواريخ الكوبية

كانت أزمة الصواريخ الكوبية واحدةً من النقاط التي تغير فيها مسار الحرب الباردة وأعطت دروسًا غاليةً لكلا الطرفين المتنازعين وحلفائهما، فتلك الأزمة كادت أن تودي بالعالم للهلاك المحقق في لمحة بصر إلا أن الحظ لعب جانبًا كبيرًا في حماية العالم من ذلك الهلاك، كانت كوبا تابعةً للولايات المتحدة الأمريكية إلا أن أحد الثوار وهو كاسترو ترقى درجات السلطة حتى أمسك بتقاليد الحكم وأعلن الثورة والتمرد على السياسات الأمريكية والانقلاب عليها وهو ما نظرت إليه الحكومة الأمريكية بعين الاستصغار باعتبار كاسترو أحد مثيري الشغب الذين يسهل التخلص منهم، بينما في ذلك الوقت مال كاسترو الشيوعي بكوبا ناحية الاتحاد السوفيتي الذي لم يكن ليفوت فرصةً كهذه أبدًا، خلال ذلك قامت الولايات المتحدة بتسليح وتدريب بعض المنفيين الكوبيين وإطلاقهم في ثورة تمرد على كاسترو ظنًا منها أن الشعب سيثور مع المنفيين وينقلب على كاسترو، إلا أن الشعب الكوبي والحكومة الكوبية قضوا على المتمردين في ضربة فشلٍ محرجةٍ لكينيدي في بداية رحلته الرئاسية واستمر كاسترو في ميله للاتحاد السوفيتي.

كانت بداية الأزمة الحقيقية حين تأكدت الولايات المتحدة من أن السوفيات بدؤوا في إنشاء قواعد صواريخ نووية على أرض كوبا وهو ما أثار غضبهم وجعلهم يحاصرون كوبا، وتهدد العالم كله ببداية مواجهةٍ نوويةٍ محققة رغم أن السوفيات رأوا في ذلك حقهم الطبيعي بسبب التهديد من الصواريخ الأمريكية في أوروبا الموجهة لمواقعهم، قبل أن تبدأ الحرب النووية اتخذت الأزمة مسارًا تفاوضيًا عقلانيًا كانت شروطه سحب السوفيات صواريخهم من كوبا بشرط ألا تغزوها الولايات المتحدة وتسحب صواريخها النووية من تركيا وتم الاتفاق.

من ناحيةٍ أخرى أدرك كلا الجانبين قوتهما والهلاك المحدق بهما إن دخلا في مواجهةٍ كتلك المواجهة الكوبية التي قد تسفر عن خسارة الجانبين معًا، ما أدى إلى محاولاتهما تجنب مواجهاتٍ كتلك في المستقبل وتحويل علاقتهما لشكلٍ أكثر هدوءًا وعقلانية، لكن تلك الواقعة كانت سببًا في زعزعة ثقة الدول الأوروبية في حليفتهم الأمريكية حين أيقنوا أن الولايات المتحدة على استعدادٍ تام لتحويل العالم كله لخرابٍ إن كان في ذلك إنقاذ لمصالحها، ولا يُستثنى من ذلك حلف شمال الأطلسي أو حلفائها الأوروبيين، وهو ما أثار حذر ومخاوف تلك الدول حتى أن الرئيس الفرنسي في أحد تصريحاته أعرب عن مخاوفه وقلقه قائلًا أن فرنسا قد تواجه ذات يومٍ الفناء دون الأخذ برأيها!

مصائب قومٍ عند قومٍ فوائد!

كانت الحرب الباردة حرب استنزافٍ عنيفة لكلتا القوتين العظمتين من جميع الجوانب والموارد، إلا أنها على الجانب الآخر كانت بداية عهدٍ جديدٍ وعصرٍ ذهبيٍّ لامع في بقاعٍ أخرى من العالم، تلك العوالم التي استفادت أيما استفادةٍ من الحرب الدائرة بين الطرفين واللذان كانا يحاولان بخدمة مصالح تلك الدول تحقيق السيادة والتقدم على بعضهما البعض، أبرز المستفيدين كانوا دول العالم الثالث من ناحية، والقارة الأوروبية من ناحيةٍ أخرى.

كان مصطلح دول العالم الثالث بدأ استخدامه لأول مرة خلال الحرب الباردة التي كانت سببًا في تكونه وإطلاقه على الدول المحايدة غير المنحازة أو الفقيرة من بين بقاع العالم، بمعنى آخر كانت تشمل الدول التي قام من أجل التحالف معها والسيطرة سياسيًا عليها الشرق والغرب أو ما سُمي بدول العالم الأول والثاني، كان صراع الحرب الباردة هو السبب في بدء نهاية حقبة الاستعمار التي استغلت تلك الدول كثيرًا وقمعتها وأسكتت أصواتها واعتبرت أهلها مجرد أسرى حربٍ وغنائم، فسياسة تكوين العالم الجديد خاصةً الأمريكية كفلت لتلك الدول الخلاص من الاستعمار أخيرًا والقدرة على تكوين حركاتٍ قومية وحكوماتٍ وطنية وأن يحكموا أنفسهم بأنفسهم للمرة الأولى منذ زمن، لكن ثمن الاستقلال كان الضغط على جميع تلك الدول المستقلة التي تحاول بداية طريقها الطويل للانحياز لأحد المعسكرين الكبيرين وأمن جانبه لتلقي الأمن والحماية والمساعدات منه.

ذلك في حين وجدت بعض الدول كالهند وغانا ومصر رغبتها في أخذ الحياد بين القوتين العظمتين وعدم الانحياز لإحداهما، وكان نهرو رئيس وزراء الهند يؤمن بإمكانية العلو بدولٍ من العالم الثالث والهند خاصةً لتكوين قوة عظمى ثالثة في العالم، كما كانت نظريته أنه لا يريد أن يضع كل البيض في سلةٍ واحدة ورغب في الوقوف على الحياد والحصول على المعونات من الطرفين وهو ما أثار حنق أميركا تجاه تلك الدول لكنها كانت مجبرةً على استخدام الود كيلا تكسب عداوة أحد، البعض الآخر كان ضحية المعارك التي قامت بين الطرفين ودفعوا ثمن تلك الحرب ملايين من أفرادهم كضحيةٍ لتلك الحروب.

عهد أوروبا الذهبي

كانت الحرب الباردة سبب بداية أطول حقبة ازدهارٍ اقتصادي شهدته أوروبا طوال تاريخها الحافل بفترات صعودٍ وهبوط، خاصةً أوروبا الغربية التي بدأت الولايات المتحدة الأمريكية حربها الباردة بتقديم الدعم لها والمساعدات وأشهرها برنامج المارشال الذي انضمت إليه تلك الدول والذي قدمت فيه أميركا ما يقارب الثلاثة عشر مليار دولار أمريكي للاقتصاد الأوروبي، كما أن هدف أميركا في إعادة تأسيس وبناء تلك الدول اقتصاديًا واجتماعيًا ومن كل جوانب البناء المجتمعي جعلها توفر لها الحماية والأمن اللازمين، ما دفع تلك الدول للاهتمام والاعتناء بمالحها وتوجيه كل طاقتها ومجهوداتها نحو البناء والتعمير والإصلاح، كانت تلك الدول شديدة الإحاطة والإدراك بمصالحها وما تحتاجه وبالمشاكل التي تواجهها لذلك بدأت أبرز تلك الدول في التوقيع على اتفاقيات مهمة مثل “الجماعة الاقتصادية الأوروبية” و “الجماعة الأوروبية للطاقة الذرية” وكانت نتائج التقدم والنمو بارزةً وظاهرةً وخلال عدة سنين كان المواطنون قادرين على الإحساس بذلك التقدم الملموس بأنفسهم وفي حياتهم اليومية البسيطة.

على الجانب الآخر عانت أوروبا الشرقية التي كانت جاثمةً تحت ثقل الحكم السوفيتي الديكتاتوري الذي سعى لبسط سلطته وقوته رافضًا تكون أي حكوماتٍ مستقلة، ومتبعًا مبدأ الامبراطورية الواسعة التي فرض سيطرته عليها بالبطش والقوة وهو المبدأ الذي أدى لسقوطه المؤسف في النهاية، شهدت أوروبا الشرقية ارتفاعًا مبدئيًا وتقدمًا أوليًا لكنها عانت من التأخر بعد ذلك عن نصف القارة الغربي بسبب عدم جدية الاتحاد السوفيتي في تقوية تلك الدول خوفًا من ثورتها وانقلابها عليه.

الوفاق

كان الوفاق هو السمة المميزة لفترة السبعينات بين القوتين العظمتين اللذين ترأست حكومتيهما عقولٌ أكثر تفتحًا وذكاءً من سابقتها عرفت أن ذلك الصراع إن تصاعد فسيؤدي لإحراق العالم كله، لم يكن الوفاق يعني تحالفًا أو تخلص الطرفين من العداوة المستعرة بينهما وإنما كان إيذانًا بدخول الحرب الباردة مرحلةً جديدًا وأخذها منحنى أكثر نضجًا ورقيًا وعقلانيةً مما كانت عليه في السابق، والحيود بتلك الحرب عن اختيار الصدام العسكري والنووي تمامًا وعملتا على ذلك من خلال عقد الاتفاقيات بينهما والحد من التسليح وإيجاد النقاط المشتركة وضبط علاقتهما بشكلٍ أكثر رقي.

كان المرجع الأول للميل لذلك الوفاق هو التطور النووي الذي بدأ الاتحاد السوفيتي في إحرازه بشكلٍ لافتٍ وواضح ما أدى إلى القضاء التام على زمن التقدم والتفوق الأمريكي بلا رجعة، وصارت القوتان أكثر تعادلًا وتساويًا في القوة التي من شأنها تدمرهما معًا والعالم معهما دون أن يكون هناك فائز، على الجانب الآخر فكان الوفاق والتقليل من حدة العلاقات الروسية الأمريكية في صالح الدب الروسي الذي كان يراقب تصاعد القوى الصينية وتهورها وجنونها بتخوفٍ واضح وكان بحاجةٍ لفترة هدنةٍ مع الولايات المتحدة يتفرغ فيها للجنون الصيني الذي قد يصبح مهددًا له بشكلٍ من الأشكال، خاصةً أن ذلك الجنون كان سببًا في عدة مراتٍ لمواجهاتٍ وأزماتٍ روسيةٍ أمريكية.

الوفاق يزدهر

رغم الحساسيات في التعامل وفشل بعض الاتفاقيات الأولية بين الجانبين بسبب انعدام الثقة والشك وخوف أحد الطرفين من إرخاء دفاعه فيضربه الطرف الآخر من حيث لا يحتسب، إلا أن الوفاق وجد مكانه مع الوقت بين الاثنين وبدأ الجليد بينهما في الذوبان ببطء رغم وجود الحذر وعدم التسليم التام بالثقة إلا أن بعض الاتفاقيات وخاصةً تلك التي تناولت التسليح النووي وجدت لنفسها موطنًا بين القوتين العظمتين وتبعتها عدة اتفاقياتٍ أخرى، مما أدى إلى حالةٍ من الاحترام السياسي المتبادل وإرساء نوعٍ من السلام بعد تعهد الدولتين بألا تتعرض إحداهما للأخرى بشكلٍ يهدد أمنها أو سلامها بأي شكل.

ومن ناحيةٍ أخرى وجدت عملية الوفاق الأوروبية الفرصة سانحةً لتستغل الساحة الهادئة وتحاول التخلص من شقاقها وانقسامها الذي دام لعقود، كانت بداية ذلك الوفاق على يد مستشار ألمانيا الغربية الذي كان يسعى لتقليل حساسية موقف ألمانيا من صراع الحرب الباردة وتخليصها من النزاع والفُرقة، كان أول أهدافه تسهيل السفر بين ألمانيا الشرقية والغربية والتعاملات بينهما وهو ما لاقى صدًا واسعًا وقبولًا من جميع الأطراف ووُقعت المعاهدات وأُقيمت المؤتمرات والقمم التي تجمع فيها رموز الكثير من الدول، وفي النهاية توصلت القوى الأربعة لاتفاقيةٍ بالحق المشترك لها في دخول برلين الغربية وأقر كل نصفٍ من ألمانيا بشرعية الآخر وأنكرا استخدام العنف والقوة، كانت تلك بادئة الانفتاح وتقليل الحصار بين أوروبا الشرقية والغربية بأكملها وتقليل تأزم الأوضاع بينهما بشكلٍ تاريخيٍ جميل.

الوفاق في أزمة

برغم كل الجهود المبذولة للتوصل لذلك الوفاق إلا أنه بدا عجز الغريمين الأزليين على الالتزام به وببنوده كيفما اتفق، فبدأ الوفاق يتهدد كل فترةٍ بسبب ظروفٍ مختلفة كان أشدها وأكبرها عجز الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة بالالتزام بالبند الذي ينص على تجنب الاحتكاك والتطاحن، وكان أكبر مسببٍ لذلك الاحتكاك الأزمة التي سببها الإسرائيليون في الشرق الأوسط والتي أدت إلى التدخل الروسي حنقًا واستنكارًا للمساندة الأمريكية للتبجح الإسرائيلي واغتصابها الأراضي العربية، كان ذلك الصراع أحد الصراعات التي احتدمت بين الاثنين ووصل إلى التهديد النووي كما حدث في أزمة كوبا وهو ما دل على فشل الوفاق بينهما، من ناحيةٍ أخرى كان الاتحاد السوفيتي برغم كل الاتفاقيات التي وقع عليها مستمرًا في تطوير الإنتاج السلاحي النووي وعازمًا على إحراز التقدم النووي على الولايات المتحدة وهو ما أثار حنقها وغضبها بدورها.

كان من عوامل فتور الوفاق بينهما كذلك الضغط والإصرار الأمريكي على الاتحاد السوفيتي لزيادة التنازلات النووية والخفض من حد الأسلحة النووية أكثر فأكثر وهو ما أثار ضيق الدب الروسي وجعله شديد التحفظ، كما بدأت قواتٌ من العالم الثالث يدعمها أحد الجانبين بهزيمة قواتٍ أخرى يدعمها الجانب الآخر وهو ما صاعد من حدة وتوتر العلاقة، كان المسمار الأخير في نعش الوفاق الذي صار هيكليًا هو غزو الاتحاد السوفيتي لأفغانستان وهو ما اعتبره الأمريكان تحديًا واضحًا وتهديد صريحًا لكل اتفاقيات السلام، لتعود الحرب الباردة بين الطرفين بأقوى مما كانت ويتصاعد الصراع.

العقد الأخير.. بداية النهاية

كانت أفغانستان ضربةً قاصمةً للثقة التي كانت مهتزةً بين الاثنين من البداية فسقطت دفعةً واحدة وعاد الصراع بأسوأ مما كان، في ذلك الوقت فاز ريجان في الانتخابات الرئاسية الأمريكية أمام منافسه كارتر الذي كان يكاد يحتقر سياساته في التعامل مع السوفيات، وبدأت حكومة ريجان بإعلان الحرب الكلامية والموقف العدواني الشديد إزاء الاتحاد السوفيتي منتقدًا سياسات من سبقوه معهم باعتبارها سمحت للاتحاد السوفيتي بأن يأخذ أكبر من حجمه الحقيقي، كما أنه اعتبر العقد الماضي نكسةً كبرى في التسليح النووي لأميركا جعلت السوفيات يتفوقون عليها كثيرًا، ونتيجةً لذلك بدأ في تحسين التسليح لكن أكثر ما اهتم به كان فرض نطاقٍ دفاعيٍ شامل حول أميركا وهو ما بدأ بإثارة غضب وشك الاتحاد السوفييتي، وجعلهم يشعرون بالتهديد وبأن الاستعدادات الدفاعية القصوى تلك ما هي إلا إشارةٌ من الحكومة الأمريكية بأن الحرب النووية على وشك البدء!

وصلت العلاقات للحضيض عندما قامت الحكومة السوفييتية التي أصبحت شديدة التشكك بنسف طائرة ركابٍ بها مدنيون دخلت مجال الاتحاد السوفييتي الجوي بالخطأ ما أدى إلى مصرع أكثر من مائتي بريء.

كانت عدوانية حكومة ريجان جعلت العالم كله يكتم أنفاسه رعبًا من القادم خاصةً أن كلا الجانبين انسحب من اتفاقيات السلاح وبدأ تجهيز ووضع كل الأسلحة النووية والمواقع العسكرية على أهبة الاستعداد، ولم يكن من شكٍ بأن ريجان هو السبب في استفزاز الروسيين ما أدى إلى اعتراضاتٍ واسعة النطاق على عدوانيته وأفعاله والتسبب في تصاعد الأزمة بتلك الطريقة، حتى الدول الأوروبية المتحالفة مع الولايات المتحدة بدأت بإظهار استيائها واعتراضها على سياساته خاصةً بعدما صرح ريجان سهوًا بأن الحرب النووية لو قامت فلن تُقصف أيٌ من الدولتين في إشارةٍ واضحةٍ لتحويل أوروبا لأرض معركةٍ على وشك أن يُنسف على بكرة أبيه!

تغيرٌ غير متوقع

كان إمساك جورباتشوف بسلطان الحكم السوفييتي هو نقطة التحول والختام في الحرب الباردة أخيرًا بعد أربعة عقودٍ ونصف من الاستنزاف، وصل الاتحاد السوفييتي لمرحلة الصفر وسقط أولًا! فبعد كل تلك الصراعات والتصاعدات جاء جورباتشوف بكمية تنازلاتٍ كان أغلبها أحادي الطرف لم تحلم بها الحكومة الأمريكية، بل لم يتخيلها العالم كله الذي وقف مذهولًا يراقب تلك التنازلات التي ظن أنها مستحيلة من الدب الروسي، كانت الحرب قد أنهكت السوفيات إنهاكًا عنيفًا واستنزفت كل قواها ومواردها فلم يعد بإمكانها الاستمرار أكثر من ذلك وفضلت التراجع والتنازل.

أدت تلك التنازلات بتحولاتٍ جذريةٍ في العلاقات السوفييتية الأمريكية وخلصت الأمريكان من ندهم وعدوهم اللدود وأفسحت المجال للولايات المتحدة لتصبح القوة العظمى الوحيدة في العالم، ترك جورباتشوف سباق التسلح واتجه إلى الإصلاح الداخلي والاجتماعي وما أفسدته الحرب داخل بلاده، وأدت تنازلاته لاتفاقياتٍ نشأ عنها تدمير الأسلحة النووية الأمريكية والسوفيتية، لكن تلك التنازلات كانت هي بداية تفكك الاتحاد السوفيتي وسقوطه تمامًا فبعد أن ظل عقودًا يحكم بالحديد والنار وجدت تلك الدول الفرصة سانحةً لها للقيام بثوراتها واستعادة حريتها ومع الوقت اختفى الاتحاد السوفييتي من الوجود وانتهت الحرب الباردة للأبد.

غفران حبيب

طالبة بكلية الصيدلة مع ميولٍ أدبية لعل الميل الأدبي يشق طريقه يومًا في هذه الحياة

أضف تعليق

2 + ثمانية =