تسعة مجهول
أوتا بينغا
الرئيسية » غرائب » أوتا بينغا : الأفريقي الذي تمت معاملته معاملة القرود

أوتا بينغا : الأفريقي الذي تمت معاملته معاملة القرود

أوتا بينغا أحد أقزام الكونغو الأفريقية، لكنه قد عانى كثيرًا بسبب حالته البدنية وتم استغلاله أسوأ استغلال ممكن لدرجة أنه قد وضع في حديقة حيوان أمريكية!

يُعاني الأقزام في كل مكان وزمانٍ، لكن القزم الكونغولي أوتا بينغا بالذات قد عانى أشد المعاناة بسبب هيئته البدنية التي استغلها المجتمع الأمريكي في إبراز العنصرية بأبهى صورة مُمكنة لها، كان ذلك خلال القرن العشرين، وقد كان الإنسان الأسود في هذه الأثناء لا يُصنف إنسانًا لدى الأمريكان البيض بالذات، وأكبر دليل على ذلك هو ما حدث لبطلنا المسكين أوتا، والذي أخذته الظروف السيئة التي مر بها إلى أن يُصبح في النهاية مجرد حيوان ضمن حيوانات حديقة الحيوان، وبالرغم من أنه قد تمكن من الإفلات من هذا الجحيم في فترة من الفترات إلا أن نهايته كانت مأسوية بحق، تمامًا مثلما كانت نهاية أي شخص أسود كان يعيش في أمريكا العنصرية بذلك الوقت، لكن، لأن قصة أوتا بينغا تستحق فعلًا، دعونا في السطور القادمة نتعرف سويًا على كل شيء يتعلق بذلك الرجل وكيف تحول إلى قرد لإرضاء رغبة البشر المرضى النفسيين، والأهم من كل ذلك بالتأكيد نهايته التي كانت مأساوية بكل ما تعنيه الكلمة من معانٍ.

من هو أوتا بينغا؟

وُلد أوتا بينغا في نهاية القرن التاسع عشر، وهي فترة لم تكن جيدة أبدًا على البشرية، لكن قبيلة مابوتي التي كان ينتمي له أوتا لم تكن يشغلها هذا العالم الكبير، فقد كانت قبيلة مُسالمة جدًا تعمل فقط من أجل الطعام والشراب، كل ما كان يعيبها من وجهة نظر المجتمع الأحمق أنها كانت تتمتع بهيئة غريبة بعض الشيء، هذه الهيئة كانت تجعلهم في الشكل أقزام، ولكم أن تتخيلوا أن الإنسان في هذا الوقت لم يكن تصنيفه بالمال أو العلم أو المكانة الاجتماعية، بل كان التصنيف يتم بالشكل، وقبيلة مثل مابوتي تعيش في الكونغو البلجيكية وتتمتع بالبشرة السمراء وفي نفس الوقت تسعين بالمئة من أفرادها أقزام هي بحق تُعد سلالة غير منتمية للبشرية، أو لا تستحق الانتماء من وجهة نظر هؤلاء الوحوش الذين يحملون أسماء البشر، لكن، هل استحق الأمر فعلًا أن يقوم وحوش البشر بإبادة قبيلة مابوتي بأكملها!

إبادة قبيلة مابوتي

كان أوتا بينغا يعيش حياة هادئة مع قبيلته، كان عملهم يتمثل فقط في إطعام أنفسهم، لكن في سنة من السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر أرادت أحد الشركات البلجيكية أن تجعل أفراد القبيلة يعملون لديهم بالسخرة، والحقيقة أن كل ذنب القبيلة أنه قد رفضت ذلك، وفي بلد ليس بها ما يُعرف بالقانون قامت الشركة البلجيكية باستئجار من يقومون بإبادة القبيلة بأكملها انتقامًا من الجميع، فقد كانوا بالنسبة لهم مجرد قرود، فكيف إذًا تجرأت القرود ورفضت طلبهم.

اشتعل فتيل الإبادة وأصبح الجميع في هذه القبيلة مهدورٌ دمه، وقد طالت تلك العاصمة أوتا بينغا وقتلت كل عائلته تقريبًا، والديه وزوجته وأطفاله، وربما كان من الأولى أن يتم قتله كذلك لإنقاذه من المعاناة التي سيُعانيها فيما بعد، لكن ذلك لم يحدث، وعاش أوتا بقية حياته ليلقى في النهاية مصيرًا أسوأ من الذي حظيت به أسرته المقتولة خلال الإبادة، فما هو يا تُرى المصير الأسوأ من الإبادة والقتل؟

أوتا بينغا يقع في الأسر

قلنا من قبل أن سعداء الحظ هم الذين ماتوا خلال عملية الإبادة هذه، أما أولئك الذين لم يحظوا بحظ جيد فقد تعرضوا للأسر على يد الشركة البلجيكية، وطبعًا لا حكومات موجودة أصلًا لتمنع مثل هذه الأمور، لدرجة أن أوتا ورفاقه قد عُرضوا للبيع في مزادٍ علني ولم يتمكن أحد من الاعتراض، لكن، وعلى سبيل استمرار الحظ السيء في ملازمة أوتا، فقد اشتراه صمويل فيلبس هو ومجموعة أخرى من الأقزام من أجل استخدامه، بالمشاركة مع صديق طبيب له، في دراسة علم الأعراق، ببساطة، لقد أصبح أوتا فأر تجارب بامتياز.

كان صمويل وصديقه مقتنعين تمامًا بنظرية تطور الإنسان، وكانا يُريدان كذلك إقناع العالم بهذه النظرية، لذلك قاما بعمل معرض كبير وتم عرض أوتا به مع بعض الذين يتشابهون معه في حالته، كان الهدف من ذلك هو تقريب الصورة أكبر للمشاهدين، ولا تستغربوا وجود مثل هذه المعارض فقد كان أمر شبه شائع في هذه الأوقات خاصةً في أكثر البلاد عنصرية وعدوانية للسمر، الولايات المتحدة الأمريكية.

أوتا في حديقة برونكس

لفت أوتا بينغا الأنظار خلال تواجده في معرض صمويل عام 1904، لذلك قام أحد أصحاب حدائق الحيوان، ويليام هرنوداي، بشرائه ووضعه في حديقة الحيوان كي يتم مشاهدته من الناس، كان صاحب الحديقة يُريد استغلاله في إثبات نفس النظرية التي حاول صمويل من قبل إثباتها، وهي أن الإنسان في الأصل قرد، مبرهنًا ذلك بشكل أوتا الذي كان يُشابه قليلًا القرد، ثم مع الوقت بدأت الأمور تأخذ منحنى آخر مُختلف، حيث لم يعد أوتا سوى أداة جذب تجارية تجعل الناس يأتون لزيارة الحديقة ودفع مِقدار أكبر من الأموال.

الغريب فيما كان يحدث مع أوتا أن الناس كانوا يذهبون بالفعل ويدفعون الأموال من أجل مشاهدة ذلك المسكين وهو يوضع في القفص بشكل مُذل، كانوا يستمتعون بذلك أشد الاستمتاع، وكان الأمر بالنسبة لهم رحلة لطيفة، وهذا ما يعكس حالة المجتمع الأمريكي العنصري في ذلك الوقت، لكن ماذا عن السود الذين كانوا يعيشون في أمريكا، هل صمتوا على تلك الإهانة لأحد أفرادهم، أم كان ثمة أقوالٌ أخرى؟

المجتمع الأسود يتحرك

كان السود في الولايات المتحدة الأمريكية مستضعفون، لكن هذا لا يمنع من وجود أقلية لها كلمة مسموعة، وهذا ما حدث بالفعل فيما يتعلق بحالة أوتا بينغا، حيث حرك مجتمع السود القضية وصدروها للرأي العام العالمي الذي سلط الضوء على ما يحدث داخل تلك الحديقة من إهانات شديدة للجنس البشري الأسود، ولأن صاحب الحديقة كان عنيدًا بعض الشيء فلم يُعر تلك التداعيات أي اهتمام حتى أدرك أنها قد تُعجل بإغلاق حديقته التي تدر له الكثير من الأموال، لذلك بدأ بالاستجابة من خلال إخراج أوتا من القفص وجعله يسير في الحديقة بشكل طبيعي، لكنه ظل فيها مجرد حيوان للعب!

تتطور الأمر وأصبح أوتا يتعرض للضرب من قِبل زوار الحديقة، كانوا يجدون في ذلك سبيلًا للمتعة، أجل كان الوحوش يحصلون على متعتهم من خلال القيام بحفلة تعذيب جماعية للمسكين أوتا، والذي لم يجد بُد من التعامل معهم والاعتداء على بعضهم في مرات مُختلفة، ومع تسليطٍ أكثر للضوء وتفاقم الوضع لم يكن ثمة مفر من إخلاء سبيل أوتا وخروجه للعالم من جديد، وفي تلك الفترة بدأت حياته الجديدة.

حياة أوتا بينغا الجديدة

بعد أن خرج أوتا من حديقة الحيوانات بدأ حياته الجديدة في عام 1910، كانت حياة مثالية تمامًا بدأت بدخوله أحد المدارس تحت إشراف القس الذي حارب من أجل خروجه، وهناك فعل القس كل شيء من شأنه أن يُغير من حياة الفتى الذي عانى، حيث بدأ أولًا بتغيير ملابسته وتعويده على لبس الزي الأمريكي الرسمي، ثم عمل لفترة طويلة على إصلاح أسنانه وبالفعل نجح في فعل ذلك، وأخيرًا تخرج أوتا من مدرسته وأصبح شخصًا جديدًا يُمكن أن يُقبل في أي عمل مهما كان، كان مثاليًا بحق، وكانت الحياة المثالية تتأهب له.

حياة أوتا الجديدة استمرت بالعمل في أحد المصانع بدخل ثابت يُناسب احتياجاته، كما أنه كذلك تمكن من تكوين صداقات كثيرة وكسب حب الناس بسبب براءته التي كانت طفولية إلى حدٍ كبير، كان طفلًا بالنسبة لهم، طفل قادر على جعلهم ينزفون دمًا من أعينهم عندما يسمعون عن المآسي التي تعرض لها وكيف كانت الحياة صعبة معه أمام وحشية وقسوة البشر الذين تعامل معهم، لكنه في هذا الوقت كان يعيش حياة مثالية كما ذكرنا وكل ما عليه فقط مسايرة تلك الحياة، بيد أن الحنين الذي لفه كان من الصعب السيطرة عليه بهذه السهولة.

الحنين إلى الوطن

في وقت من الأوقات ظن أوتا بينغا أن الحياة كريمة معه إلى أقصى درجة ممكنة، لذلك طمع في العودة مرةً أخرى إلى الوطن، كان يُريد العودة من أجل إعادة بناء العائلة ولم شمل من تبقوا من قبيلته، فحتى ولو انخرط في المجتمع الأمريكي فهو لا يزال في النهاية ناقمًا عليه ولا يبغي أبدًا أن تكون أُسرته القادمة منهم، لذلك قرر أن يتم الأمر بأكمله داخل بلاده بقلب أفريقيا، لكن الجميع يعرف أن الرياح لا يُمكن أبدًا أن تجري بما تشتهيه السفن.

قُبيل تحضير أوتا للسفر، ومساعدة من يعملون معه له في هذا الأمر، كانت السعادة حاضرة ومُسيطرة، لكن في لحظة من اللحظات تغير كل شيء باندلاع الحرب العالمية في عام 1914، حيث أصبحت حركة الملاحة صعبة جدًا، وبات من المستحيل أن يتمكن أوتا من السفر إلى أي بلد أخرى، خاصةً إذا كانت تلك البلاد أفريقيا، والتي جعلت منها القوى المُتصارعة في الحرب أرضًا لمعاركها، عمومًا، أدرك أوتا في النهاية أن حلم آخر من أحلامه قد تدمر في غمضة عين.

حياة لا تستحق

شعر أوتا بالكثير من الألم عقب تعثر سفره، والحقيقة أن ذلك الألم قد انقلب مع الوقت إلى بؤس ويأس، بات منعزلًا، حتى العمل تركه وأصبح يتردد على الحانات وأماكن العربدة، وطبعًا تصاحب ذلك مع التدهور الشديد في صحته للدرجة التي جعلته أسوأ من كونه قزم، وهي مرحلة لم يصل إليه إلا عندما كان مُجرد قرد في حديقة الحيوانات أو فأر تجارب لدى المهووسين بنظرية التطور، ببساطة شديدة، لقد عاد أوتا بينغا إلى حالته الأولى، بل أسوأ منها بكثير.

تطور الأمر سوءًا، والحقيقة أنه في مثل هذه الظروف لا تكون الحياة هينةً أبدًا مع الشخص التي يعيشها، ولذلك قرر أوتا أن يضع حدًا لكل هذا السوء، أسوأ حد ممكن على وجه التحديد، وهو قتل نفسه عن طريقة رصاصة مباشرة في الرأس، كان ذلك في عام 1916، وتحديدًا في العشرين من شهر مارس الموجود في ذلك العام.

ختامًا، علينا أن نعرف أن ظروف الحياة هكذا في كل وقت، تبدو وكأنها تتعمد إيلامك، لكن هذا لا يمنع من أن الأمور قد تجاوزت الحد في حالة أوتا بينغا، وإن كان هناك الكثير من الأقزام يُعانون معاناته، بيد أنه تحمل مسئولية حمل اللواء للدفاع عنهم ولو كان ذلك على الأقل من خلال تخليد معاناته وإشعار العالم بأن ثمة من أخطأ في حق شخص فأوصله إلى ذلك المصير السيء، لذلك يجب ألا يتكرر ذلك الخطأ.

محمود الدموكي

كاتب صحفي فني، وكاتب روائي، له روايتان هما "إسراء" و :مذبحة فبراير".

أضف تعليق

2 × أربعة =