تسعة
الرئيسية » معتقدات وظواهر » أسطورة الخليقة البابلية : كيف تخيل العراقيون القدماء خلق الكون ؟

أسطورة الخليقة البابلية : كيف تخيل العراقيون القدماء خلق الكون ؟

تتعدد نظرات الشعوب للخالق أو الإله الأعظم، نتعرف في ما يلي على أسطورة الخليقة البابلية أو الطريقة التي نظر بها قدماء العراقيين إلى الإله.

أسطورة الخليقة البابلية

أسطورة الخليقة البابلية أو “اينو ما ايليش” حسب نطقها البابلي وتعني “حينما في العلى” وهكذا تفتح الأسطورة في الألواح الطينية. هي أسطورة تحكي كيف يتخيل العراقيون القدماء خلق هذا الكون من العدم وبداية الآلهة التي يعبدوها في كل العصور التي مرت بالحضارة العراقية القديمة. والغريب أن الأسطورة تتشابه في بعض التفاصيل الصغيرة مع طريقة خلق الله عز وجل للأرض في التوراة. وهي أسطورة مشهورة في المجتمع العراقي القديم ولها تأثيرها على الشعب آنذاك وفي المعابد، وتشغل الآن عقول العلماء والمفكرين وقد ترجمت إلى الكثير من اللغات لدراستها واستيعابها. وهنا سأتكلم عن أسطورة الخليقة البابلية من حيث ملخصها وأهميتها وما أوضحته.

تعرف على كل ما يخص أسطورة الخليقة البابلية أو الإله العراقي الأعظم

قبل أي شيء يجب أن تعرف الآتي عن كيفية وصول الأسطورة لنا اليوم في شكلها الأخير

أولاً أكثر القصص اكتمالاً عن أسطورة الخليقة البابلية جاءت لنا في سبع ألواح طينية وجدت في مكتبة الملك “أشور باسال” في مدينة نينوى عاصمة الإمبراطورية الأشورية والتي أتت بعد الإمبراطورية البابلية الأولى. ويتراوح عمرها لأكثر من 660 سنة قبل الميلاد ولكن زمن كتابة الأسطورة الأصلية القديمة يصل إلى أبعد من ذلك بكثير، منذ ألاف السنين في المجتمع السوماري القديم، وتطورت مع الوقت وتغيرت ملامحها ولكن يبقى قابلها الأساسي الملحمي كما هو. ولماذا تغيرت؟ لأن أصل القصة يعمل عمله الديني والسياسي ويجب أن يتماشى مع ظروف العصر وتقلب الإمبراطوريات والسياسة. فزمن وصول القصة لنا هو زمن كتابتها في العهد البابلي الأول أي أيام الملك حمورابي مؤسس الإمبراطورية البابلية، وكانت بابل هي العاصمة لذلك يجب أن يعلي اسم بابل وأهميتها وسط المدن الأخرى في الملحمة، وكذلك كان حمورابي يعبد الإله مردوخ وقال يقول إن الشرائع التي حكم بها الشعب هي بالأساس هبة من الإله مردوخ، فكان على كهنة معبد مردوخ إعلاء شأن مردوخ فوق كل باقي الآلهة الأخرى، ليتحول بطل أسطورة الخليقة البابلية من الإله أنو أو الإله أنليل (آلهة المدن الحاكمة السابقة قبل بابل) إلى الإله مردوخ. فيجب أن تأخذ هذا الأمر في اعتبارك لتفهم الأسطورة وأهميتها عن حق.

أول قطع من أسطورة الخليقة البابلية وصلت لنا من أقدم العهود في سومر وهي تختلف عن النسخة البابلية في الأحداث والبطل والبداية الغامضة. ولكن الأكثر اكتمالاً ونضجاً في الأدب والتأليف كما ذكرنا هي السبع لوح من مكتبة أشور وما أسموه العلماء فيما بعد “رقم الخليقة السبعة” وهذه هي التي نستند عليها في حديثنا اليوم، وهي تختلف تماماً عن فكرة شعب الأنوناكي الخالق للإنسان والقادم من الفضاء الخارجي كما اعتقدوا في رواية أخرى مختلفة. وهي تعتبر من أطول الملاحم الشعرية الطويلة بعد أسطورة جلجامش بالطبع، لأنها تحتوي على ألف بيت يتوافقون في الجناس اللفظي على طريقة الكتابة الأدبية البابلية القديمة.

ملخص أسطورة الخليقة البابلية حسب نسختها البابلية “رقم الخليقة السبعة”

تبدأ أسطورة الخليقة البابلية بقول حينما في العلى، ثم تصف أن في ذلك الوقت لم يكن للسماء ولا الأرض اسم ولا عُرفت بعد، وإنما لا يوجد سوى الإله أبسو (إله مذكر وممثل المياه العذبة والأنهار) والإلهة تيامة (إلهة مؤنثة وممثلة للمياه المالحة والمحيطات) وكانت مياههم مختلطة. ولم يوجد إله أخر فتجوزوا وأنجبوا الآلهة الأخرى على مر الدهور المتعاقبة أولهم الإله لخمو وأيضاً الإله لحامو وبعدهم أشار وكيشار وهما والد ووالدة الإله أنو إله السماء وكان أنو نظيراً وقوياً للآلهة أباءه. ثم ولد بعد ذلك الآلهة الأخرى الحديثة كلها (أنا، أيا، عشتار، إنليل، شمش، سين، أدد، وغيرهم الكثير) وكانت الآلهة الحديثة أفضل من القديمة في التفكير حيث كانوا يفضلون العمل وإنماء الأرض أما القدماء فيفضلون الخمول والركود كما هم، وكذلك امتلكوا حكمة ومعرفة أكثر فأساؤوا إلى الآلهة العتيقة، لذلك كرهوا الطرفين بعضهم البعض وكانوا في صراع دائماً، وكان أبسو يكره الآلهة الجديدة بشدة ويريد أن يفنيهم لترجع الأمور في حالتها الهادئة كما سبق له ولزوجته فقط، وكانت زوجته تحن على أولادها وتخالفه الرأي. وقد عرف الإله أيا خطة أبيه الشريرة لقتل كل الآلهة الحديثة وفي اللحظة الحاسمة جمع كل قوته وسحره وألقى تعويذة قوية على أبيه أبسو (المياه العذبة) فأدخله في سبات وكبله وقتله وجمع القليل منه وحزنه في مناطق معينة فقط وبعد ذلك خلق الأرض ليبني عليها بيته ويعيش عليها هو وزوجته “أنكي” وأنجبا ابناً كان في كمال الهيئة والصورة وكان أقوى وأحكم من جميع الآلهة وهو “مردوخ”.

من هنا تكمل أسطورة الخليقة البابلية مع البطل مردوخ. حيث يستشيط غضب الإلهة تيامة (المياه المالحة) من الآلهة الحديثة التي قتلت زوجها، فتستعمل سحرها لخلق الكثير من أنواع العفاريت والأفاعي والشياطين والمخلوقات القوية البشعة مع أسلحة فتاكة التي تضايق الآلهة وعلى رأسهم المحارب والإله العتيق “كنكو” الذي جعلته زوجها وأعطته مفاتيح السحر وألواح القدر التي صنعتها لتتحكم في الخلق والكون كله وتحارب الآلهة الحديثة. ويأتي أيضاً دور الإله أيا الذي صار شيخاً بهذا الوقت ليكشف المؤامرة التي تدبرها تيامة، فذهب إلى جده أشار وسرد له القصة فغضب الأخير كثيراً جداً وأمر أيا أن يحارب تيامة، لكنه هذه المرة خاف من جيشها القوي وقال إنه لن يقدر عليه بمفرده، وكذلك انهزم الإله أنو أمام تيامة، ولم يبقى للآلهة بطل يدافع عنهم. فاجتمعوا كلهم فيما يسمى “ندوة الأقدار” وهو مجلس شورى لكل الآلهة حتى يتفقوا لحل هذه المشكلة.

فأرسلوا رسائل لتيامة يحاولوا أن تفاهموا معها على حل وسيط يردي الأطراف كلها، ولكن الرد لم يكن محبباً ولم تستجيب إلى أي دعوة للصلح. فقرر الآلهة عقد مجلس الأخر وفي هذه المرة أكلوا وشربوا وغنوا وسكروا وفي الأخير اختاروا بطلاً جديداً يدافع عنهم وهو بالطبع مردوخ، وأجلسوه على العرش ووضعوا له تاج وجلبوا له صولجان وقدموا له كل خبرتهم ومعرفتهم وسحرهم وأسرارهم الكامنة في أسماءهم. وجعلوه ملكاً لا ترد له كلمة في الكون كله وسلطته عليهم جميعاً. وكاختبار أخير لقوته جلبوا رداءً في وسطهم وقالوا له: إن كنت حقاً قوياً فاجعل بكلمة منك الرداء يختفي وبكلمة أخرى يرجع. ففعل مردوخ ذلك فعلاً. وكهدية أخيرة صنعوا له سلاحاً لا مثيل له، وهو صنع لنفسه قوس وسهم وشبكة قوية، وسجدوا له قائلين: حقاً إن مردوخ ملكاً.

ويبدأ بطل أسطورة الخليقة البابلية في رحلته لإنقاذ الآلهة الحديثة من تيامة جدتهم. فركب عربته العجيبة التي تجرها المخلوقات مخيفة مدمرة، وأمر الرياح الأربعة أن تسكن في مواضعها الأربعة. وحين تقابل مع تيامة بدأت هي بإلقاء أسحارها وشعوذتها على الفور ولكن لم يؤثر فيه شيء، وإنما ألقى هو بشبكته كالصياد وحبسها بداخلها، وأمر حينها الرياح الأربعة بالتحرك والدخول إلى جوف تيامة، فأمسكها وذبحها. ولما رأى جيشها هذا الأمر حاول الهروب ولكن مردوخ تمكن منهم ومن قائدهم كنكو فحبسه وقتل الباقيين. ورجع ليهشم رأس تيامة ويقطع مجاري الدم فيها ويتحكم هو بكل ما كانت تملكه. فمجدت الآلهة كلها مردوخ واعترفوا بملكه وقوته أكثر.

بعدها قرر مردوخ الفصل بين الآلهة وقسمهم إلى قسمين الأول في السماء وإله السماء هو أنو وحدد مناطق كل إله والمواسم والفصول والأبراج والنجوم. والقسم الثاني هو الأرض وإله الأرض أيا وأنكي وأيضاً حدد عمل كل إله ومناطقه، فتحدد الآلهة العظيمة السبعة والباقي هم الآلهة الصغيرة. وأحب أن يخلق مخلوق جديد يعبد الآلهة ويصنع لها المعابد ويقدم الذبائح، وكان يجب أن يضحي بأحد الآلهة حتى يخلق الإنسان من دمه. فأتى بكنكو وسفك دمه ومنه خلق الإنسان. وفي أخر أسطورة الخليقة البابلية في اللوح السابع نجد أن الإله ايساكلا بنى معبد مهيب للإله البطل مردوخ في بابل واجتمعوا هناك فيه في حفل مقدس ليمجدوا مردوخ ويرتلوا بأمجاده وقصصه ومنحوه هناك ألقاب وأسماء مقدسة كثيرة ومهمة، فأصبح اللوح السابع هو عبارة عن ترتيلة وصلاة للإله مردوخ البطل.

استنتاجات عن أهمية أسطورة الخليقة البابلية

لم تكن أسطورة الخليقة البابلية محض خيال وقصة أدبية ملحمية فقط بل كانت مهمة دينياً وسياسياً كما ذكرنا، ولها تأثير في عقول العراقيين القدماء لأنهم ببساطة هكذا تخيلوا الكون وعبدوا الآلهة على أساسها. وتلك المعتقدات كانت ثابتة وراسخة في حياتهم فيهتموا بذابح الآلهة وطاعتهم في كل صغيرة وكبيرة. ولكنها أيضاً امتلكت مفاهيم ومعاني كبيرة وراء هذا الإطار الأسطوري والملحمي تصور لنا نحن اليوم حياة وأفكار ومعتقدات العراق القديمة، ومن أهم الاستنتاجات ما سأذكره لك عزيزي القارئ الآن.

أولاً: التشابه الكبير بين أسطورة الخليقة البابلية والتوراة في فكرة خلق فصل الإله بين المياه العذبة والمالحة وأنهم أصل الخليقة، وبعد ذلك فصل بين السماء والأرض، وبأن المياه كانت موجودة من الأزل ولم تخلق. هذه الأمور لا يتفق عليها الأساطير القديمة فقط حول العالم في مختلف العقائد وإنما يتفق فيها العلم أيضاً، مما يجعلنا نتساءل عن مدى العلم الذي وصل له العراقيون القدماء وخبرتهم الكبيرة ببداية وأصل الكون.

ثانياً: الاختلاف الكبير بين أسطورة الخليقة البابلية وأسطورة الخليقة المصرية الفرعونية، والأخيرة تتكون من تشابه في التفكير ولكن في نطاق هادئ دون مناوشات أو منازعات ومعارك بين الآلهة. ويرجع ذلك الأمر نظرياً لفكرة الطبيعة الهادئة التي تمتع بها سكان نهر النيل حيث المواسم المتتابعة دون مشكلة، والثبات الطبيعي والمناخ المعتدل الذي ساعدهم على الهدوء والاستقرار. بعكس الطبيعة العراقية أو سكان ما بين النهرين القدماء حيث المشاكل والأجواء المتقلبة وعدم القدرة على التحكم الكامل بالطبيعية وبالأنهار، فانعكس ذلك في تفكيرهم وتخيلهم لأصل الكون بأنه أيضاً لم يكن سهلاً أو بسيطاً في تكوينه. حيث الأزمة التي مرت بالآلهة والصراعات المتعددة مع تيامة (إلهة المياه). مما يؤكد للعلماء صعوبة العيش الذي واجهه العراقيون القدماء لبناء حضاراتهم العظيمة التي كانت غير مستقرة أبداً وتتقلب كثيراً في سياستها، والتي استغرق توحيدها تحت راية مملكة واحدة فترة أطول بكثير من نظيرتها المصرية، لأنهم واجهوا صعوبات بيئية أكثر بكثير.

ثالثاً: مفاهيم سياسية خفية امتلأت بها الأسطورة، حيث استنجاد الآلهة بالإله مردوخ الذي حماهم ونصره على الشر ووحد بينهم، وهو إشارة بالطبع لمؤسس وملك الإمبراطورية البابلية العريقة “حمورابي”، مما يؤكد مدى ثقة واحترام وطاعة الشعب العراقي له، وأيضاً طاعة الكهنة في المعبد بما يؤمرون به خوفاً من بطش وقوة الآلهة العظيمة.

والخلاصة عزيزي القارئ أن أسطورة الخليقة البابلية قد لا تتوافق بالطبع مع التفكير والمعتقدات الدينية لنا اليوم، ولكنها ما زالت تؤكد على خبرة وعمل والقدرة الأدبية للعراقيين القدماء. مما يجعلها موضع الدراسة والتدقيق لمعرفة خباياها وأسرارها، وتجعلها هدف لعلماء الآثار والأشوريات بالأخص. فيجب عليك كمواطن عربي معرفة تراثك جيداً لتفخر به عن حق.

سلفيا بشرى

طالبة بكلية الصيدلة في السنة الرابعة، أحب كتابة المقالات خاصة التي تحتوي علي مادة علمية أو اجتماعية.

أضف تعليق

اثنان + اثنان =