الحيوانات الآكلة لأبنائها هي ظاهرة جديدة نسمع عنها بكثرة هذه الأيام. فنحن نعرف أن الإنسان وحده يمتلك الجحود المطلوب ليؤذي أبناءه، أما الحيوانات فلديها من غرائز الرحمة ما يكفي للدفاع عن أطفالها بدافع الأمومة والأبوية. ولكننا اليوم سنغير هذا المنطق، لنعرض عليكم مجموعة من الحيوانات الآكلة لأبنائها. أو ظاهرة ” الكنيباليزم” أي أكل لحوم النوع الواحد. كما نعرض أسباب تلك الظاهرة ودورها في حياة تلك الحيوانات.
ما حقيقة ظاهرة الحيوانات الآكلة لأبنائها ؟
مثال على الحيوانات الآكلة لأبنائها
في محاولة لدراسة هذه الظاهرة، تم تشديد المراقبة على مجموعة من عصافير الفينيك من نوع Carpodacus mexicanus. وكانوا المراقبين هم علماء بيولوجيين أمريكيين، من وقت بداية وضع البيض. فلاحظ العلماء أن الأنثى تضع ما يقارب الستة بيوض، ويأتي الذكر كل حين ليطعم الأنثى في فمها. ثم يطران سوياً لمدة ثلاثين ثانية. بعدها ترجع الأنثى إلى العش وبدون أي مقدمات أو أسباب تبدأ في تفتيش العش. وبعدها تختار بيضة وتبدأ بالنقر عليها منقارها حتى تكسرها وتأكل ما بداخلها. حاول العلماء كثيراً تحديد سبب منطقي لما تفعله الأنثى وسبب منطقي للاختيار، كمثل أن تلك البيضة لن تنتج عصفوراً سليماً، ولكن بدون جدوى. فتلك البيضة كانت ستخرج منها عصفوراً كاملاً لا عيب فيه. فتصبح بتلك الطريقة حالة من حالات الحيوانات الآكلة لأبنائها.
هذه الظاهرة ليست بالضرورة جزءاً مغاير للطبيعة، بل الأغلب هي ظاهرة تدعو للحفاظ على النوع والبقاء حياً. لأن هناك الكثير من الحيوانات الأخرى التي تأكل أبنائها، مثل الجرذان والعناكب وبعض أنواع الأسماك. ولكنهم كلهم بالنهاية يمارسون أكثر اهتماماً كبيرة بنسلهم وذلك ملحوظ جداً.
فهم أعمق لظاهرة الحيوانات الآكلة لأبنائها
بعد التأكد من أن تلك الظاهرة منتشرة وموجودة بكثرة بالفعل، وجب على العلماء دراسة أعمق لها. وبالأخص دراسة السلوك المعاكس الذي يظهره الآباء، فمن الممكن أن يأكلوا أبنائهم ومن ثم يظهروا أعلى درجات الرعاية للأطفال الباقيين. في السابق اعتقد العلماء أن هذه الظاهرة تعتبر مثل المرض الاجتماعي ولا علاقة له بآلية التطور. ولكن اليوم اكتشف العلماء أن لهذه الظاهرة علاقة وثيقة بعملية التطور، ولكنها غير واضحة في الأهمية. وكأنها تعطي نوع من التوازن، بين قدرة الأهل من الحيوانات على الإنجاب والرعاية الحالية والمستقبلية.
وجود أفضلية للتطور والاستمرار بالبقاء على قيد الحياة للنوع بأكمله، يرتبط بظهور ظاهرة الحيوانات الآكلة لأبنائها، ويظهر هذا الأمر من خلال أعوام من الدراسة على أنواع من الأسماك. فوضع العلماء نظرية لتفسير هذا الأمر، بأن الآباء يحصلون على مواد غذائية أفضل من أبنائهم الصغار. هذه الوجبة تعطي الأفضلية للمرور بالأوقات العصيبة التي لا يتوفر فيها الطعام، مما يساعد الآباء بعبور تلك الفترة والحفاظ على حياة باقي العائلة أو المجموعة أو النسل، مما يساعد على بقاء النوع ولا ينقرض. ولكن تلك النظرية لم تصمد طويلاً أمام الدراسات المكثفة.
نظرية جديدة
عام 2002 عرض الباحث آدم بيان من جامعة لندن، نظرية أخرى لتفسير ظاهرة الحيوانات الآكلة لأبنائهم. تقول بأن الآباء تفعل تلك التصرفات لا حباً في تغذية أنفسهم للعبور وقت عدم توافر المواد الغذائية، بل لأنها تعلم أنها ستمر بمثل هذا الوقت والقحف. عند يجد الأهل أن الموارد الغذائية المتوفرة لن تكفي الصغار، يضحون بالأضعف بينهم، حتى تزيد فرصة حصول الصغار على الطعام والمرور بالأوقات السيئة فلا يموتوا جميعاً. ويظهر هذا في الرعاية الكبيرة التي يوفرها الآباء لباقي الصغار، لأنهم النسل القادم الذي يحمي استمرار النوع. وهذا الأمر يوفر الجهد والموارد المتاحة والحظ لاستمرار هؤلاء الصغار. كلها تفسيرات غير مرضية بالكامل، وتعتمد على إبداء الرأي أكثر من الدراسة العلمية، ولذلك وجب ذكر الدراسة الأتية التي أعطت تفسيراً أكثر وضوحاً ومنطقية لظاهرة الحيوانان الآكلة لأبنائها.
هوب كلوج ومايكل بونسال
هما من أهم علماء البيولوجيا من جامعة فلوريدا وأكسفورد. قاما باستخدام موديل بالحاسوب على منطقية معطيات نظرية التطور، لدراسة أعمق وأشد علمية ومنطقية. وضع العلماء مع الحاسوب سيناريوهات كثيرة، من خلال وضع سلوكيات الحيوان وظروفه البيئة، والحالات الثلاثة التي يمكن أن تنتهي بها قصة الفراخ أو البيوض (إما الأكل من قبل الأهل، أو رعاية الأهل لهم، أو تركهم بمفردهم ويتخلون عنهم). وبعد ذلك يقوم الموديل بإعطاء الخيارات القادمة المبنية على معطيات نظرية التطور.
الموديل أظهر وبضوع علاقة ظاهرة الحيوانات الآكلة لأبنائها مع تواجد العناية والرعاية أو اندثار الرعاية تماماً من قبل الأهل والتخلي عنهم. كما أنه كشف أن تلك الظاهرة تسببها عوامل كثيرة ومتداخلة، فلا يوجد سبب منفرد ليفسر الظاهرة. كما ظهرت مفاجأة في سرعة نضوج البيض ونجاح الأهل في حضانة الأفراخ أو البيض، بعد تناولهم لوجبة مكونة من طفل بينهم. كما لاحظوا وجود استراتيجية متكررة في تصرفات الطيور، بحيث تأكل الطيور الفرد الأضعف وعن وعي، وكأنهم مروا بظروف سابقة جعلتهم مدركين ما الذي يتوجب فعله. فالبيضة التي تفقس أسرع لديها فرصة أكبر للتغلب على مصاعب الحياة والبقاء على قيد الحياة، في عالم فيه البقاء للأقوى وفقط. أما التي تحتاج إلى وقت أطول فهي الأضعف.
بذلك تحقق ظاهرة الحيوانات الآكلة لأبنائها أفضلية تطورية عالية لتلك الأنواع. لأنه الأضعف يحتاج عناية أكبر، وفرصة خسارته لصالح الحيوانات المفترسة أكبر. أما الحيوانات الأقوى ففرصة بقائهم أكبر، وبالتالي هم أيضاً سيفضلون الأصلح ويقضون على الأضعف. ومن هنا يتطور النسل نحو الأفضل والأصلح للبقاء عوضاً عن الأمر يظهر بوضوح أكبر في أنواع من الأسماك.
صراع تلك الظاهرة داخل الأسماك
أغلب أنواع الأسماك لا تقدم اهتماماً للبيوض، بل تكتفي بوضعهم ثم تتركهم لحظهم مع الطبيعة. ولكن البعض الأخر يقدم اهتمامات كثيرة، مثل توفير المياه الغنية بالأكسجين والحماية من الأسماك المفترسة، وتنظيف البيوض من الأوساخ والفطريات. الغريب أن ظاهرة الحيوانات الآكلة لأبنائهم تظهر في النوع الثاني وليس الأول. ويقف الذكر الأب، وأخص الأب لأنه هو صاحب الظاهرة هنا، محتاراً ومتسائلاً عن كيفية التصرف السليم. فلو أكل عدد كبير من البيض، سيقلل فرص استمرارية النسل وتكاثره. ولو أقل عدد أقل، سيتصارع الأبناء على المواد الغذائية القليلة المتوفرة ويخسر أيضاً. ذلك القرار الصعب يأخذه بعد تحديد الموارد الغذائية المتوافرة والظروف الحالية. لأنه إذا أخطأ في القرار، سيقف أمام نهاية مسدودة مع آلية التطور والانتخاب الطبيعي.
بأي طريقة يأخذ ذكر السمك قراره؟
وجد الباحثين كاي لندستروم وهوب كلوج من أكاديمية أبو، أن هناك استراتيجية يمارسها الذكر في تحديد من يموت ومن سيؤكل. أولاً الذكر هو من يقوم برعاية الصغار بدون الأنثى، في نوع الأسماك المسمى “Pomatoschistus minute”. ثانياً ذكور هذا النوع من الأسماك تقوم بتلقيح بيوض أنثيين، ثم يختار البيوض كبيرة الحجم ويأكلها. خاصة البيوض الكبيرة من الأنثى الثانية، لأنها من وضعت في اليوم الثاني وهذا يعني أن البيض كبير مقارنة بالباقيين. ومعنى كون البيضة كبيرة أنها ستحتاج وقت ومجهود أكبر للعناية بها. وبهذا الشكل يخصص الذكر اهتمامه فقط بمن يستحق وله الأفضلية عن الأخريين. كما يسمح له بسرعة العناية بهؤلاء، والذهاب لتلقيح بيوض أخرى لزيادة النسل واستمرار النوع.
قتل الأخوة لبعضهم
لا يتوقف الأمر عند ظاهرة الحيوانات الآكلة لأبنائهم، لأن الأخوة أيضاً لا يقدمون الرحمة للأضعف. وخاصة في الحيوانات التي تلد ولا تبيض، فيميت الأقوى أخيه الأضعف في رحم الأم. مثل حال أسماك القرش والسلمندر والضباع وحتى طيور النورس. الضباع بالأخص تقدم هذه الظاهرة وبوضوح، فكل رابع أخ سيموت بالتأكيد ويؤكل من أخوته في الرحم قبل الخروج إلى الحياة حتى. كما إن الأم تشجع على ذلك ولا تمنعه، فهي تفرز بعض الهرمونات التي تشجع الصغار للتخلص من الأضعف في شهور الحمل الأخيرة.
بالنهاية عزيزي القارئ، قد تبدو ظاهرة الحيوانات الآكلة لأبنائها ظاهرة غريبة وعديمة الرحمة، ولكنها بالتأكيد ظاهرة تدعو للتفكير لأنها الأصلح بالنسبة إلى التطور. الإنسان نفسه بمر بوقت ومازال يفعل ذلك الأمر، ولكن بطرق أخرى ومبررات مختلفة. ولكن تظل الفكرة ثابتة، أن النوع الذي يزيد في تكاثره خارج السيطرة وزائد عن الموارد البيئية المتوفرة، يهلك بالتأكيد ويضر النظام البيئي المتوازن.
ولله في خلقه شوؤن
نعم شاهدت ذلك بأمي عيني كان مرعباجداومقززللغاية منظرهامولم حقا