تسعة اولاد
الرئيسية » مفاهيم علمية » الكوانتم : معجزة كونية وفيزيائية تعرف عليها الآن

الكوانتم : معجزة كونية وفيزيائية تعرف عليها الآن

الكوانتم

الكوانتم هو أحد المفاهيم التي ظهرت في بداية القرن العشرين لتفسير الكثير من الظواهر الطبيعية التي كنا نجهلها بشكل كامل، نستعرض كل ما يخص الكوانتم هنا.

الكوانتم قصة مثيرة وثرية من قصص العلم التي غيرت وجه الحضارة، بل لعلها من أهم الإنجازات التي قام بها العقل البشري على مر العصور والتي كان لها الفضل الأكبر في تغيير وجه الحضارة البشرية، فكانت درة التفكير الإنساني وجائزة المنهج العلمي الذي عماده الفرض والتجريب والذي ناضل العقل الإنساني كثيرا وقاوم الكثير من التخبطات من أجل الوصول إليه كطريق إلى الحقيقة يعصمه من الزلل في قضايا مائعة قائمة على الجدل الذي ساد الفكر البشري فترة طويلة من الزمن. ومما ينبغي وضعه في الاعتبار أن الكوانتم لم يعد حكرا على العلوم الرياضية والفيزيائية بتعقيداتها وصعوباتها البالغة وغموضها المثير، لكنها تعدت هذه العلوم الطبيعية والصورية (الرياضية) إلى العلوم الإنسانية وعلى رأسها الفلسفة. ولا تقل صعوبة التناول الفلسفية عن صعوبتها العلمية، فالكوانتم فكرة فتحت للعقل البشري البحث في أبواب أخرى كانت موصدة بأقفال البديهة، كمفهوم السببية ومفهوم التموضع ومفهوم الاحتمالات والذات العارفة وموضوع المعرفة وموضوع البديهة ذاتها.. إلى آخر الموضوعات الفلسفية التي لا تنتهي. ومن أجل فهم أعمق لهذه القصة المثيرة كان علينا القيام بجولة سريعة على المقدمات والإرهاصات والسياقات العلمية التي سبقت الكوانتم فكانت سببا مفضيا إليه. ويقسم العلماء الفيزياء إلى قسمين محورهما فيزياء الكوانتم : الفيزياء الكلاسيكية، والفيزياء الحديثة، أو فيزياء ما قبل الكوانتم وفيزياء ما بعد الكوانتم باعتباره نقطة تحول كبيرة في تاريخ علم الفيزياء.

كل ما يخص الكوانتم

الفيزياء الكلاسيكية

خرجت الفيزياء الكلاسيكية من رحم الفلسفة الطبيعية، حيث كان الفكر الفلسفي هو الفكر السائد على العصر الوسيط بأكمله (والعصر الوسيط هو الفترة التي تتوسط عصرين هما العصر القديم أو العصر اليوناني بفكره وفلسفته، والعصر الحديث وهو خروج العقل الإنساني من نفق العصر الوسيط الذي قبع فيه الفكر الفلسفي تحت أجنحة الكنيسة، فكان من الفلاسفة الذين دفعوا العقل الإنساني للخروج من العصور الوسطى: رنييه ديكارت وفرانسيس بيكون، وكان من العلماء: نيكولاس كوبرنيقوس وجوهانز كبلر وجاليليو جاليلي وإسحق نيوتن)، كان نيوتن بالتحديد هو الذي دفع العلم وبحزم خطوة واسعة نحو الأمام من خلال كتابه “المبادئ” والذي صاغ فيه ظواهر الكون في صورة معادلات رياضية، من قوانين الحركة الثلاث إلى قانون الجذب العام الذي وصف فيه عمل الجاذبية الأرضية والجاذبية الكونية إلى قوانين الضوء والإبصار..إلخ. فسرت قوانين نيوتن حزمة كبيرة من ظواهر الطبيعة وخصوصا فيما يتعلق بالأجسام وحركاتها الميكانيكية، ولسد الثغرة في علم الفيزياء ولتكميل الصورة ظهر شق آخر من التفسيرات غير الميكانيكية، وهي التفسيرات المجالية، والتي افتتحها كل من مايكل فراداي وهانز أورستد وجيمس كلارك ماكسويل.

موجات تتحرك في بحر من الأثير

كانت ثمة ظواهر لا تدخل في حيز الميكانيكا النيوتونية التفسيري وإنما تطلبت فيزياء من نوع آخر، وهي فيزياء الموجات. ابتدى الأمر على يد أورستد وفاراداي، حيث قاموا بتجارب حول المغناطيسية والكهرباء مفادها أنك إذا مررت تيار كهربي في سلك بالقرب من إبرة بوصلة تحركت هذه الإبرة عموديا نحو السلك، الأمر الذي فسره فاراداي على أن مجالا مغناطيسيا يحيط بالسلك الذي يمر به تيار كهربي هو الذي حرف إبرة البوصلة. وحين أجريت التجربة بالعكس، أي أن مغناطيسا يتحرك بالقرب من سلك يمكن أن يمرر فيه تيار كهربي. كان التفسير المناسب الذي اقترحه فاراداي هو افتراض “المجال”، أي أن مجالا مغناطيسيا يتولد حول سلك يمر به تيار كهربي، ومجالا كهربيا يتولد في سلك يتحرك بالقرب منه مغناطيس، ومحصلتهما ينتج ما يعرف بالموجات الكهرومغناطيسية وببعض المعادلات التي قام بها ماكسويل وجد أن هذه الموجات تتحرك بسرعة الضوء، ثم ما لبث أن استنتج أن الضوء نفسه ما هو إلا موجة من هذه الموجات الكهرومغناطيسية ولكنه بترددات محددة تتراوح ما بين اللون الأحمر واللون البنفسجي، والموجات الكهرومغناطيسية هذه افترضها العلماء تتحرك في الفراغ أول الأمر، ثم بعد ذلك افترضوا لها وسطا تتحرك فيه بما أنها عبارة عن موجات، وهذا الوسط يملأ الفراغ بين الكواكب والنجوم ويغمر الكون بأكمله، فلابد له وأن يكون لا متناهي المرونة والشفافية بحيث لا يقاوم حركة الكواكب والنجوم بحسب قوانين نيوتن، كما أنه في ذات الآن لابد له وأن يكون قوي وصلب جدا بحيث لا يتراخى أمام موجات الضوء القادمة إلينا من النجوم البعيدة! لكن وبرغم كل هذه المتناقضات التي حشدوها أمام افتراض الأثير إلا أنهم لم يجدوا بدا من هذا الافتراض ولا بديلا عنه لكي يفسروا انتشار الموجات الكهرومغناطيسية.

قضية أخرى تزيد الأمور تعقيدا

في بحثه عن مشكلة إشعاع الجسم الأسود وجد الفيزيائي الكبير “ماكس بلانك” مشكلة أرقته وتستعصي على الحل، إذ كان ماكس بلانك ذو طبيعة محافظة، الأمر الذي جعله يرفض وجهة النظر الذرية الجديدة التي تجعل من العالم أجزاء منفصلة وليس امتدادا متصلا كما في المجال، لكن في بحثه في مشكلة الجسم الأسود ومحاولة وضع المعادلة الجبرية المعقدة التي تصف منحنى الأطوال الموجية عند كل درجة حرارة ظهرت أمامه مشكلة ستحطم وجهة نظره الرافضة للذرية التي تجعل من الكون طبيعة منفصلة في صورة ذرات، هذه المشكلة عبارة عن ثابت رياضي دقيق جدا وغير مفهوم ولا تفسير له -كان عليه استخدامه في إجراء عملياته الحسابية لكي تخرج مطابقة للتجربة، ومقدار هذا الثابت (ومقدار هذا الثابت (62607,6 × 10مرفوعة لأس -23 جول . ثانية)، وسرعان ما أطلق على هذا الثابت ” ثابت بلانك” hوهو أحد الثوابت الأساسية في الطبيعة. في البداية لم يكن لدى بلانك أي فكرة عن المغزى الفيزيائي لهذا الثابت الرياضي، ثم بعد ذلك قال أن هذا الثابت هو تعبير عن كمات من الطاقة يطلقها الجسم الساخن أو يمتصها، وأن هذه الكمات التي تجعل من الإشعاع كيانا منفصل وليس مستمرا متصلا لا تحدث إلا أثناء امتصاص الجسم للطاقة أو أثناء بثه لها. وهذه الكمات أو الحزم أطلق عليها اسم الكوانتم لكن بلانك اعتبره بالأساس مجرد حيلة رياضية تمكن من تفسير عملية امتصاص أو انبعاث الضوء لكنه ليس من صميم طبيعة الضوء ذاته. بذا أصبحت المشكلة المتعلقة بالضوء مشكلتان لا مشكلة واحدة: كيف ينتقل الضوء عبر وسط افتراضي به من المتناقضات ما يشب عن طوق المنطق؟ الطبيعة الموجية للضوء ذات الطابع الاتصالي عجزت عن وصف الأطوال الموجية المنبعثة من الجسم الأسود.

حل المعضلة

في ميدان آخر من البحوث يظهر الفيزيائي الأعظم “ألبرت أينشتاين” ليستخدم فكرة الكوانتم في تفسير ظاهرة التأثير الكهروضوئي، وهي الظاهرة التي تتحرر فيها الإلكترونات من على سطح المعدن بفعل الضوء. وأبرز الذين تصدوا لها هو العالم “فيليب لينارد” إذ وجد أن كمية الإلكترونات المحررة تتوقف على شدة الضوء، بينما طاقة الإلكترونات تتوقف على تردد الضوء، إذ بزيادة التردد من اللون الأحمر إلى اللون البنفسجي تزداد طاقة الإلكترونات المحررة. أخذ أينشتاين يتأمل أعمال لينارد وأعمال بلانك طوال أربع سنوات حتى توصل إلى أن الكم أو الكوانتم من صميم طبيعة الضوء، أي أن الضوء في صميمه عبارة عن كمات منفصلة من الطاقة مقدارها هو ثابت بلانك وهو أصغر كمية ممكنة من الطاقة. وبهذا استطاعت النظرة الكمومية للضوء أن تفسر لنا الثابت الذي ظهر لبلانك أثناء إجراء حساباته على إشعاعات الجسم الأسود، كما فسرت ظاهرة التأثير الكهروضوئي التي عجز عن تفسيرها فيليب لينارد. وثمة أمر آخر وهو أن افتراض الكوانتم هذا أسقط الحاجة إلى افتراض الأثير بتناقضاته التي دعت إليها النظرية الموجية للضوء. على أن استخدام الكوانتم جاء للمرة الثانية على يد العالم “نيلز بور” في تفسير الطيف الخطي لذرة الهيدروجين. من الجدير بالذكر أن فكرة الطبيعة الجسيمية للضوء قد تم افتراضها على يد العالم نيوتن، وقد أيدت نيوتن في هذا الرأي العديد من التجارب، لكن تجارب أخرى قام بها العالم توماس يونج تؤكد أن الضوء ذو طبيعة موجية، وذلك فيما ظهر من تداخل وحيود للضوء في تجربة الشقين في الحاجز الذي مرر من خلالهما يونج الضوء. لكن يأتي التوحيد بين النظرتين الجسيمية والموجية للجسيمات دون الذرية بما فيها الضوء على يد العالم لويس دي برولي وذلك عام 1924م، حيث اقترح أن يتم النظر إلى الجسيمات الذرية ودون الذرية على أنها جسيمات تسلك أحيانا سلوكا موجيا. لكن الذي ينبغي وضعه في الحسبان، ولتقريب الصورة للذهن، هو أن استخدام تعبير الموجة للتعبير عن الحالة الجسيمية إنما هي نظرة كلية شاملة لجملة من الجسيمات كما استخدام تصور موجات البحار، إن البحر الذي نراه أمامنا يتكون في مجمله من موجات، وذلك عند النظر إليه في حالة كلية، لكن عندما نريد أن نحلل هذه الموجات ونحلل النظرة الكلية لماء البحر وموجاته لوجدنا أن هذا الماء يتكون من جسيمات دقيقية هي جزيئات الماء، والتي في جملتها تكون الموجات، لكننا لا نستطيع أن نرى هذه الجزيئات كل على حدا ورصد حركة كل جزيء ومساره وسرعته واتجاهه بكل دقة، لكن أقصى ما نستطيعه هو الحصر الإحصائي الذي يشمل كل جزيئات الماء في صورة الموجة وارتفاعها وسعتها وسرعتها واتجاهها. كذلك الأمر ينسحب على الجسيمات دون الذرية، فنحن لا نستطيع تحديد موضع كمية حركة الجسيم بدقة متناهية في نفس الوقت، وهذا ما يعرف بمبدأ عدم اليقين لهايزنبرج، حيث ينص هذا المبدأ الذي ساقه العالم الألماني فيرنر هايزنبرج على أنه يستحيل تحديد موضع جسيم وكمية حركته بدقة في ذات الآن، فإذا زادت دقة القياس في إحداهما قلت هذه الدقة على الجانب الآخر وهكذا. صاغ هايزنبرغ نظريته الارتيابية هذه في صورة مصفوفات رياضية سميت بميكانكا المصفوفات لهايزنبرج، وهذه الميكانيكا نظرت للظواهر الذرية نظرة جسمية. على الجانب الآخر نظر العالم النمساوي إرفين شرودنجر إلى الظواهر الذرية نظرة موجية ليصف بدقة متناهية السلوك الكلي لمجمل الجسيمات موضع الدراسة، فجاءت النتائج مطابقة تماما لنتائج ميكانيكا المصفوفات لهايزنبرج بالرغم من اختلاف التناول والمنطلقات، فهذا انطلق من الطبيعة الجسيمية للمادة (هايزنبرج) وذاك انطلق من الطبيعة الموجية للمادة (شرودنجر).

قفزة أخرى في تطور نظرية الكوانتم جاءت على يد العالم الإنجليزي بول ديراك، حيث قام بوضع صياغة أشمل لميكانيكا المصفوفات والميكانيكا الموجية ثم دمج هذه الصياغة بنتائج نظرية النسبية الخاصة لأينشتين مما أدى إلى نتائج مذهلة، أهمها هي اكتشاف ما بات يعرف بالمادة المضادة والطاقة المضادة والتي أيدتها النتائج العملية.

وهكذا توالت استخدامات الثابت الرياضي بدلالته الفيزيائية على يد العلماء تباعا بعد أن تأكدت نتائجها وفرضت نفسها أمرا واقعا على الفيزياء الحديثة فكانت فتحا مبينا أنتج ما يسمى بفيزياء الكوانتم بنتائجها المذهلة وتطبيقاتها التي ملأت الحياة العملية والعلمية والطبية.

كريم علي

طالب بقسم الآداب قسم الفلسفة بجامعة القاهرة، باحث حر متخصص في الفلسفة، وهاوي مجالات الاجتماع والأنثروبولجيا والعلوم الإنسانية.

أضف تعليق

خمسة × خمسة =