تسعة مجهول
محاكمة الحيوان
الرئيسية » غرائب » محاكمة الحيوان : غرائب وعجائب حدثت لحيوانات القرون الوسطى

محاكمة الحيوان : غرائب وعجائب حدثت لحيوانات القرون الوسطى

محاكمة الحيوان تُعد ظاهرة من أكثر الظواهر جنونًا، حيث ظهرت في القرون الوسطى وأغلبها كان في أوروبا القديمة، وقد سجلها التاريخ ضمن أغرب المحاكم على الإطلاق.

ليس هناك شيء أغرب من أن تطلب من شخص أن يفهمك بالرغم من أنه لا يُمكنه ذلك، وبنفس المنطلق أنت أيضًا لن تتمكن من معاتبته أو معاقبته أو حتى الحكم عليه، لكن صدقوا أو لا تصدقوا، في فترة من الفترات كان يتم محاكمة الحيوان وكأنه شخص عاقل واعي لما يُطلب منه، ليس هذا فقط، بل كانت تُصدر الأحكام عليه ويتم تنفيذها، وربما تعتقدون أن هذا التصرف كان مجرد تصرف مجنون من قِبل بعض الناس، لكن الغريب حقًا أن تلك المحاكمة كانت تشهد زخمًا كبيرًا وكان يتم حضورها من قِبل الجميع وكأنها محاكمة طبيعية، الأدهى أن صيحات التهليل والفرح كانت لا تنقطع بعد صدور الحكم الذي يُدين ذلك الحيوان، وإن كنتم لا تصدقون بعد بأن هذا كان يحدث فأنتم بالطبع محقون لأنه أمر جنوني، لذلك، ولكي تحصلون على اليقين، دعونا في السطور المقبلة نتعرف سويًا على ظاهرة محاكمة الحيوان على مر التاريخ وأبرز النماذج لها، فهل أنتم مستعدون لذلك الأمر المجنون حقًا؟

محاكمة الحيوان والجهل

في الحقيقة لم تكن ترتبط مسألة محاكمة الحيوان بالجنون والغباء أكثر من الجهل، والدليل على ذلك أن تلك المحاكمات كانت تحدث في القرون الوسطى، وطبعًا جميعنا يعرف أن القرون الوسطى هذه قد شهدت الكثير والكثير من الأحداث المجنونة، كما أنها قد سجلت كذلك أقل نسبة ذكاء في تاريخ البشرية وفي نفس الوقت أعلى نسبة من الجهل، حتى أوروبا، والتي نعتبرها الآن آية في العلم كانت تشترك في تلك الأفعال المجنونة بل يُمكن القول إنها كانت المنبع الرئيسي لها.

تأنيب الإنسان للحيوان ومعاقبته أمر مجنون بالطبع، لكنه يُمكن أن يكون أمر مقبول نظرًا لإمكانية تسارع غضب الإنسان وفقدانه لشعوره، وبالتالي عدم تمييزه في هذا الوقت للإنسان من الحيوان، لكن ما نتحدث عنه فعلًا ونسلط الضوء عليه أمر أعظم من ذلك بكثير، فنحن نتعرض لأشخاص نصبوا المحاكم وجمعوا القضاة والشهود فقط من أجل البت في كون حيوان ما مُذنب أو غير مُذنب، ولكي نكون إيجابيين أكثر، دعونا نبدأ بالنموذج الأول لتلك المحاكمات وهي محاكمة الفئران الرمادية الغازية لأوتون.

محاكمة الفئران الرمادية، محاكمة الجنون

من أشهر قضايا محاكمة الحيوان في التاريخ هي تلك التي تعرضت لها الفئران الرمادية في منتصف القرن السادس عشر بقرية أوتون الفرنسية، وهي قرية ربما لم تُعرف سوى بسبب تلك الحادثة تحديدًا، والتي بدأت بغزو بعض الفئران الرمادية للقرية وتسبيب الدمار لها، وطبعًا المنطقي في مثل هذه الحالة أن يتم البحث عن طريقة يُمكن من خلالها التخلص من الفئران، لكن أهالي القرية قد فعلوا أمرًا غريبًا جدًا، وهو أنهم قد تقدموا بشكوى إلى القاضي يطلبون فيها أخذ كامل حقوقهم من الفئران الغازية، الأدهى أن القاضي قد قبل الشكوى وتم نصب المحاكمة للفئران، ولا نُخفيكم أن الغرائب لم تتوقف أبدًا عند هذه المرحلة، وإنما وصلت إلى تطوع أحد المُحامين المشهورين بالدفاع عن الفئران الرمادية ضد هذا الاتهام.

كانت محاكمة مجنونة، وكانت أول القرارات المجنونة هي استدعاء الفئران للمثول أمام المحكمة، وطبعًا لم تحضر الفئران، وكان تبرير المحامي أن منهم الكبار في السن ومنهم من لا يُمكنه السير وحيدًا نحو المحكمة، وفي المرة الثانية للاستدعاء كانت الحجة هي خوف الفئران من القطط، لذلك أصدر القاضي قرارًا بعدم خروج القطط في هذا اليوم، لكن الناس لم يمتثلوا للقرار، مما أدى إلى قيام القاضي بإصدار الحكم المجنون، وهو براءة الفئران من التهم الموجهة إليها، لتكون هذه واحدة من أغرب المحاكمات في التاريخ.

قضايا الخنازير، أبرز صورة محاكمة الحيوان

كانت الخنازير أشبه بالضيف الدائم على قاعات المحاكم، فقد شهد التاريخ الفرنسي أنه قد تم محاكمة الخنازير أكثر من ثلاث مرات في القرون العشر الأخيرة، أما المرة الأولى فقد كانت في عام 1266، وتحديدًا في بلدة أوكس روزوس القابعة بأحد المدن الفرنسية، حيث انتهت القضية بإدانة أربعة خنازير وتم تنفيذ حكم الإعدام عليهم، والذي كان من المنطق أن يأتي في صورة الذبح، لكن للغرابة تم تنفيذ الحكم في صورة الشنق لجعل القضية أشبه بقضية محاكمة البشر، أما الحادثة الثانية التي كانت الخنازير بطلة فيها أيضًا فهي تلك التي وقعت عام 1386، وذلك ببلدة فاليز، حيث اتُهم خنزير بقتل طفل فأمرت المحكمة بإلباسه ملابس شخص عادي وتم إعدامه كعقاب على تلك الجريمة.

الحادثة الثالثة كانت في منتصف القرن الخامس عشر، وتحديدًا في عام 1457، وطبعًا كانت فرنسا هي المُحتضنة لتلك الحادثة الغريبة المُتمثلة في قتل أحد الخنازير الأم لطفل ونهش لحمه بمساعدة أبنائها الستة، الغريب حقًا أن المحكمة بعد تحقيق واسع قد قررت أن الأم مذنبة وتستحق العقاب، ولذلك تم قتلها، أما الأبناء الستة فقد أفرجت المحكمة عنهم بحجة أن الأدلة لم تكن كافية، تخيلوا إلى أي درجة وصلت مسألة محاكمة الحيوان في تلك الحقبة المجنونة!

حشرات سان جوليان، الرضوخ لمطالب الحشرات

في نهاية القرن الخامس عشر، وتحديدًا عام 1495 بأحد المدن الفرنسية سان جوليان، كانت هناك صورة أخرى من صور محاكمة الحيوان، وهذه المرة كان المُتهم المذنب عبارة عن مجموعة من الحشرات الصغيرات التي قامت بمداهمة الزروع والخضروات التابعة لسكان هذه القرية، فما كان منهم إلا أن اتخذوا قرارًا لا يُعبر سوى عن جنونهم، وهو رفع قضية يتهمون فيها حشرات السوس بتسبيب الخسائر الفادحة لهم ويُطالبون بسرعة معاقبتها وأخذ الحقوق منها، وصدقوا أو لا تصدقوا مرة أخرى، لقد قبلت المحكمة القضية وقبل أربعة مُحامين مرموقين الدفاع عن الحشرات.

أُقيمت الكثير من الجلسات، الكثير والكثير تحديدًا، حيث أن أمد القضية قد وصل إلى أربعين عامًا، وعلى ما يبدو أن سكان القرية قد يأسوا تمامًا من المحكمة وأدركوا أنه لا سبيل لحسم هذه القضية سوى باللجوء إلى الأمور الوسط والرضوخ لسطوة الحشرات، ولهذا قاموا بتخصيص قطعة كبيرة من الأرض فقط من أجل الحشرات كي يأكلوا بها ما يُريدونه في مقابل ترك باقي مساحة الأراضي كما هي، وللمزيد من الغرابة، ارتضت الحشرات بالحكم ورضخت له.

الحيوان الساحر، محاكمة بعيدة عن فرنسا

القرون الوسطى لم تكن بهذا الجنون الذي تحدثنا عنه قبل قليل، وإنما في الحقيقة كانت درجة الجنون أكبر من ذلك بكثير، حيق ذُكر أن أحد دول بريطانيا العظمى قد جرت بها مُحاكمة كبرى مطلع القرن السادس عشر، وكان ضحيتها جاموس مسكين، بيد أنه في تلك المرة لم يكن الجاموس مُتهمًا بقتل طفل أو بمهاجمة أحد المحاصيل أو حتى إزعاج سكان البلدة، وإنما فقط تم اتهامه بارتكاب أبشع تهمة في أوروبا بذلك الوقت، وهي مُمارسة السحر، أجل كما تسمعون، لقد تم اتهام الجاموس بأنه ساحر وتم نصب أحد أبرز صور محاكمة الحيوان له.

في البداية وُضع الجاموس تحت المراقبة بحجة التعرف على أفعال السحر التي يقوم بها، ولما ثبت أنه لا يقوم بأي شيء تم اتهامه بأنه مُخادع ومواري للحقيقة، ولذلك أخذت المحكمة بزعم صاحب الجاموس وأنه قد شاهده يقوم ببعض الأفعال السحرية، وفعلًا كان الحكم بموته بنفس الطريقة التي كان يموت به أي شخص يثبت أنه قد مارس السحر بهذا الوقت، وهي طريقة الحرق حيًا أمام جمعٍ غفير من الناس.

الفيلة ماري، محاكمة مجرمة السرك

نبقا كما نحن مع محاكمة الحيوان ومع تضمنته هذه الظاهرة الغريبة من أسرار، وهذه المرة نحن نتحدث عن حيوان عاش في القرنين التاسع عشر والعشرين، وتحديدًا نهاية الأول وبداية الثاني، وهو الفيلة ماري، فقد تمكنت تلك الفيلة من جذب الناس إليها بسبب ما كانت تؤديه في السرك من حركات وألعاب رائعة، كان لها مُدربًا خاصًا وكانت متجاوبة معه بطريقة رائعة، لكن الروعة لم تستمر لفترةٍ طويلة، هذه سنة الحياة، وهذا ما كان سيحدث يومًا لا محالة.

في أحد الأيام غاب المُدرب الخاص بماري، وهذا يعني أمرين لا ثالث لهما، فإما أن يتم إلغاء فقرة ماري هذه الليلة، وهو خيار صعب لأسبابٍ كثيرة، وإما أن يتم استبدال المدرب القديم بآخر جديد، وهذا هو الخيار الذي ما كان على أحد اتخاذه، عمومًا، جاء المدرب الجديد وحاول التعامل مع ماري فارضًا سيطرته عليها، لكن ما حدث هو النقيض تمامًا، حيث أثار غضبها بطريقة غير مُتعمدة مما أدى إلى حدوث الكارثة التي استوجبت محاكمته، ببساطة شديدة، وكأي حيوان هائج، ركضت ماري تجاه المُدرب وضربته ضربة قاتلة أوقعته صريعًا في الحال.

محاكمة ماري وإعدامها

حدث الأمر أمام كل الحضور، أو ما يُمكن الآن تسميتهم بالشهود على اعتبار أنهم سوف يُصبحون شاهدين على محاكمة الحيوان الأشهر في القرن العشرين، ودون أخذ الكثير من الوقت حكمت المحكمة على ماري بأنها مُذنبة لقتلها المُدرب دون أي سبب حقيقي، وذلك الأمر استدعى أن تُعدم، جميل، لكن ثمة سؤال هام الآن سوف يُطرح على عقولك جميعًا بكل تأكيد، كيف يُمكن إعدام فيلة ضخمة؟

كانت مسألة إيجاد طريقة يُمكن من خلالها إعدام الفيلة ماري هي الشغل الشاغل لكافة المسئولين، وهذا ما فتح الباب أمام الكثير من الاقتراحات التي كان أغلبها مُضحكًا بحق، أهمها مثلًا أن يتم إعدام ماري من خلال الكهرباء، وبالتأكيد تخيل فكرة مثل هذه أمر مضحك بحد ذاته، حتى أننا لا نضمن أنها ستموت خلال عملية الصعق، فأمر مثل هذا تم تجريبه من قبل على البشر فقط، عمومًا، كان ثمة طرق أخرى مثل الذبح، لكن في النهاية ما تم الاستقرار عليه هو خنق ماري أمام العامة، وهو ما حدث بالفعل لتنضم الفيلة إلى مجموعة الحيوانات التي تم محاكمتها.

إيقاف محاكمة الحيوان

في وقت من الأوقات تفشت ظاهرة محاكمة الحيوان بصورة مُخيفة، وأصبح على البشر أن يتحسسوا رؤوسهم كي يتأكدوا فعلًا من وجود العقول بها، تلك العقول التي لو كانت سليمة لما كان من الممكن أن تقود في النهاية إلى محاكمة حيوان واستجوابه بصورة طبيعية وكأنه يعي حقًا ما يُقال له، وكأنه سيثور عندما يعرف بشأن إعدامه أو سجنه ويطلب الصفح والعفو، عمومًا، مع نهاية النصف الأول من القرن العشرين كانت تلك الظاهرة قد تبخرت تمامًا من الأذهان، لم يعد هناك من يجرؤ حتى على التفكير باتهام حيوان بأي تهمة من التهم، وإلا فإن وصفه بالجنون جاهزًا له حتى قبل أن ينطق بذلك.

محمود الدموكي

كاتب صحفي فني، وكاتب روائي، له روايتان هما "إسراء" و :مذبحة فبراير".

أضف تعليق

أربعة × أربعة =