تسعة
الرئيسية » اعرف اكثر » هل تعلم » شعب يعيش بالبحر : كيف يعيش شعب بأكمله في داخل البحر ؟

شعب يعيش بالبحر : كيف يعيش شعب بأكمله في داخل البحر ؟

حينما نتحدث عن شعب يعيش بالبحر فإننا لا نعني أشخاصًا يعيشون في جزيرة، بل إننا نعني شعبًا يعيش في البحر فعلاً، فهل من الممكن أن يكون ذلك حقيقيًا؟

شعب يعيش بالبحر

شعب يعيش بالبحر، كيف يمكنه ذلك؟ تخيل معي لو أن حياتك كانت تتلخص كلها على ظهر مركب وجيرانك على ظهور مراكب أخرى مثلك طوال الوقت، وأنت لا ترى اليابسة سوى من بعيد أو كل فترات بعيدة. تعرف هنا على شعب يعيش بالبحر على ظهر المراكب بالفعل، وتعرف على التهديدات التي توجههم وكيف يقضون أيامهم العادية هناك؟

شعب يعيش بالبحر : حقيقة أم خيال ؟

هم مجموعة من البشر يسموا شعب الموكين أو شعب الماوكين. وهم شعب بدوي ولكن الفرق أن تنقلاتهم على المياه في البحار وليس على اليابسة والصحراء، ولكنهم يعيشون بنفس المبدأ فيتنقلون في كل مكان بحثاً عن الصيد الجيد المتوفر. بالطبع يتنقلون بمراكبهم مثل جمال البدو في الصحراء، فتكون هي المنزل والمسكن ووسيلة التنقل وهي كل شيء ويتوفر بها أقل الإمكانيات المهمة اللازمة فقط لا غير. لكنهم يعيدون إلى اليابسة في حالات قليلة جداً، مثل شراء الوقود والزيت لمحركات المراكب أو تصليحها الذي يتطلب المال والمجهود، أو شراء الأرز والاحتياجات الأساسية فقط لا غير التي لا يستطيعون الحصول عليها من البحر. إنه شعب يعيش بالبحر تحديداً عند شواطئ أرخبيل التي تمتد 400 كيلومتر عند بحر “الاندومان” غرب الشاطئ التايلندي. هم لا يمتلكون جنسية لأي بلد ولا ينتمون سياسياً أو اقتصادياً لأي دولة، ويعيشون بقوانينهم الخاصة في البحر في سلام ومنأى عن الجميع.

كيف يقضون أيامهم ؟

شعب الموكين يعيش متنقل بين الجزر ويجمع المحار والصدف في أوقات المد، ويجمع خيار البحر وأنواع أخرى من السمك في وقت الجزر، سلاح الحربة أو الرمح هو الأشهر للتعامل السريع والانقضاض على الأسماك. هكذا عاشوا وسيعيشون منذ عشرات الأجيال حتى أصبحوا جزءاً من الكيان البحري، ويتعايشون مع الطبيعة البحرية بسلام دون أو يفقدوا التوازن البيئي. شعب يعيش بالبحر ، إذاً السباحة شيء أساسي لابد منه والأطفال تتعلم السباحة قبل المشي فهذه هي متطلبات الحياة. يستطيع الطفل ثم البالغ منهم النظر تحت المياه أفضل مرتين من أي إنسان أخر يعيش على اليابسة بشكل عادي حتى لو كان غواصاً متمرساً، كما أنهم لديهم القدرة لحبس أنفاسهم مدة طويلة مقارنة بأشهر السباحين والغواصين، وتعود جسمهم بالفطرة والتكيف مع البيئة إلى خفض نبضات القلب عند النزول إلى المياه لتوفير الطاقة ويتحملون ضغط المياه العميقة أضعاف الإنسان الطبيعي، وكل ذلك بدون الاستعانة إلى أدوات السباحة والغوص المعروفة، فما قلت سابقاً هم لا يشترون ما لا يحتاجون ومالهم قليل جداً. هذه المجموعة تستغل فترة الأمطار الموسمية لتبني قواربها ويسمونها “كبانج” ويقضون فيها كل حياتهم اليومية من طبخ ونوم وغسيل وحتى الولادة والتزاوج، ولكل مجموعة أو أسرة قارب، وكل مجموعة قوارب تكون قرية. وحين يبنون القوارب الجديدة يعيشون مؤقتاً في خيام على الشاطئ بجانب البحر أيضاً، هم لا يستطيعون الافتراق عنه.

أظهرت الدراسات التي أقيمت عليهم من قبل الباحثة آنا كيثلين أن هذا الشعب تطور عن الإنسان العادي ليتكيف مع البيئة الجديدة على مر العصور الماضية ليصبح الطفل نفسه مولود متكيف مع المياه واحتياجاتها. الطفل الصغير قادر على الرؤية تحت الماء وحبس أنفاسه أفضل بكثير من الطفل الأوروبي على سبيل المثال حتى وإن تعلم السباحة مبكراً، هذا يتعلم أم ذلك فبالفطرة، وليس لديهم التشنجات الشديدة التي تحدث لجسم الإنسان طبيعياً عندما ينزل تحت المياه. شعب الموكين يتكلم لغته الخاصة مختلفاً عن أي جزر يذهبون لها، وكأنهم شعب انعزل عن باقي العالم قبل أن يتعلم منهم الكلام فتعلم لغته الخاصة به، وهي لغة تندرج ضمن لغات الاسترا-إندونيسية. هم يعرفون البحر أفضل من العلماء أنفسهم، النبتات وأماكن وجودها، الحيوانات وعادات تنقلها وطريقة عيشها وكيفية صيدها، العثور على كل ما هو نفيس بسهولة، التنقل بالبحر ومواجهة العواصف وتوقعها، هم شعب تفوقوا على البشر أجمع فيما يختص بالبحر. الأغرب بين كل المعرفة هو ما حدث في عام 2004 مع التسونامي الكبير ضرب المنطقة، فحين كانت المنطقة كلها وما حولها تخسر الأرواح والخسائر المادية بأعداد كبيرة جداً كان هذا الشعب يعيش بالبحر أمناً سالماً ولم يخسروا من بينهم فرداً واحداً.

فقبل أيام من التسونامي كانت مجموعة من السائحين ومعهم النجمة السينمائية أون التيلاندية مجودة بقرية لهذا الشعب تبعد 60 دقيقة بالقوارب. وهناك في الصور التي التقطوها تظهر سيدة تبكي حين اظلمت السماء فجأة وكأنها عرفت ماذا يحدث، وبالفعل بعد ذهاب السياح بدأت القرية في التحرك والذهاب إلى مكان أمن بعيداً عن الموجات الغاضبة القادمة وعرفوا ما كان سيحدث بالتوقيت المناسب وتفادوا الأمر. هل تعرف عزيزي من شعر أيضاً بقدوم التسونامي غير هذا الشعب؟ الحيوانات مثل الأفيال التي صعدت أعلى الجبال والأسماك التي سبحت إلى المياه العميقة وحتى الحشرات الصغيرة التي لم يُسمع لها صوت بالليل كالمعتاد، إنها الفطرة الداخلية والإحساس بالبيئة إن كنت مؤهلاً ومدرباً لهذا الأمر تماماً كالحيوان. وحين سأل صحفي واحداً من أبناء شعب الموكين يسمى “صالح كالازالي” عن سبب التسونامي قال بأن البحر لم يأكل منذ فترة وقد اشتاق لتذوق طعم الإنسان.

سياسة التعامل معهم

حين تبقى بجانب دولتك شعب يعيش بالبحر ولا ينتمون لك وتختلف كل أفكارهم وحياتهم عندك فلابد أن تشعر بالخطر أو تحاول التعامل معهم بشكل حكيم. هكذا فعلت الحكومة التيلاندية والأخرى البورمية أو على الأقل هكذا حاولوا، فكانوا يحاولون توطين شعب الموكين وإبعاده عن البحر لتجنب هذه الطريقة الغير مألوفة بالنسبة لهم منذ أيام التسعينات. فكان نجاحهم جزئي ولم يتمكنوا من إقناع الشعب كله، حتى حين حاولوا بأسلوب التهجير والطرد من المناطق البحرية لم يستطيعوا أيضاً لأن البحر واسع وتنتشر الجزر بهذه المنطقة مما لا يمكنهم من حصر أماكنهم والتغلب عليه إلا بالقوة. وحتى الآن لم يوجه القوة ناحية هذا الشعب وقد واجهوا بعض التهديدات من شركات النفط التي تضع أعينها على المناطق المتواجدون بها إلا إنه لم يحدث أي تنفيذ لتلك التهديدات. يرجع ذلك إلى كون شعب الموكين شعب مسالم جداً رغم أنه لا يؤمن بأي ديانة ولكنهم شعب راقي وغير عنيف وأفضل كثيراً من شعوب أخرى، ويفضلون التنقل في المياه الواسعة التي تأويهم بعيداً عن المشاكل والمشاحنات العنيفة. وأظهرت دراسات علماء الاجتماع عنهم أنهم شعب يعيش بالبحر ولا يعاني من مشاكل اجتماعية أو نفسية، أو حتى مشاكل صحية ومرضية لأنهم منعزلين عن العالم الملوث تماماً ولا توجد بينهم الأمراض الخطيرة المعروفة لأنهم يعيشون بطريقة صحية سليمة أفضل مئة مرة من البشر الآخرين. وهم متوازنون مع أنفسهم كما مع البحر وسعداء ومنسجمين مع تلك الحياة البسيطة جداً. ويطلق عليهم سكان الشواطئ لقب “أبناء البحر أو الماء”.

نمط حياتهم وتفكيرهم

لغة شعب الموكين تختلف عن اللغات الأخرى في اختفاء بعض الكلمات المهمة جداً بشكل ملحوظ. وهي كل الكلمات التي لها علاقة بالوقت. فلا توجد كلمة تعني “متى” أو “مرحباً” أو “مع السلامة” ولا يعرف أي شخص منهم كم عمره لأنهم لا يعيدون ولا يعرفون الوقت. حياتهم شديدة الارتباط بالبحر جعلتهم لا يهتمون بشيء سواه لذلك لا يعرفون خارجه معناً للحياة. كما أنهم لا يملكون معناً في لغتهم لكلمة “خذ” أو “اعطي” لأن من يريد أن يأخذ شيئاً يحتاجه يأخذه ولا أحد يرفض شيئاً عن الأخر. هذا يعطيك لمحة عن نمط حياة شعب الموكين وكيف تكون حياتهم قمة في البساطة. فهل تتخيل أنك تستطيع أن تعيش معهم لمدة سنة ولا يسألك أحد منهم لماذا وتذهب دون أن تقول الوداع؟ هذه هي طريقتهم.

شعب يعيش بالبحر دون ديانة

شعب الموكين لا يؤمن بأي ديانة رغم محاولات التبشير المستمرة من مختلف الديانات ولكنهم مصرين على عدم التخلي عن بساطة تفكيرهم وحياتهم السعيدة ليذهبوا إلى العالم الخارجي التعيس. شعب الموكين يمثل كل القيم والمبادئ في تعاملاته دون أن يعطي لها مفهوم أو يمنطقها، وهو شعب فطري يعيش على سجيته دون أن يحكم بينهم شخص على أفعال الآخرين ولا يحتاجون لذلك في الحقيقة، والسلام فيما بينهم دليل على ذلك. هم لا يحبون المبشرين لأنهم يحاولون تغيرهم على مزاجهم، ويعتقدون أنهم يعيشون الحياة السعيدة الهنيئة ببساطة دون الحاجة إلى التفكير في المعتقدات الكبيرة والصعبة، ولا يحتاجون إلى كتابة أفكارهم على الورق أو يعلموا الآخرين كيفية العيش بسلام مثلهم. ورغم ذلك تجد أن مجموعة منهم تحولوا إلى البوذية والإسلامية والمسيحية على مر الوقت ولكنهم غير متشددين ولا يمارسون ربع التقاليد لأياً من تلك الديانات.

أما اعتقادهم البسيط فيتمثل في الإيمان بالأرواح الطيبة والشريرة للطبيعة بالأغلب. الأرواح الطيبة تذهب إلى الشرق والأرواح الشريرة تبقى بجانب القبور. الروح الطيبة خالية من الأمراض، والأرواح الشريرة هي من تجلب المرض ويجب أن يعالج المريض روحه ليشفي. في كل عام وفي نفس التوقيت تجتمع القوارب كلها لأداء طقوس معينة لتهدئة أرواح البحار، فيتوفر لهم الصيد والعيش الهادئ باقية العام. وتلك الطقوس ليست حكراً على الرجال بل تشارك النساء في كل كبيرة وصغيرة بالتساوي، فلا يوجد بينهم عنف ذكوري على النساء. الطريقة الكلاسيكية لدفن موتاهم هي بوضعهم على خشب الخيزران وتكون زواياه الأربعة مثبتة في الرمال بقاع البحر في الأماكن التي يكون منسوب المياه فيها قليل. أما منذ عام 1850 عندما حاولت الدول توطينهم بدأوا في دفن موتاهم بالطريقة العادية تحت التراب في حفر قرب الشواطئ، وهم يدفنون الموتى في الجزر البعيدة عن طريق تنقلاتهم لئلا تكون أرواحهم الشريرة محجوزة عند القبور، فيحاولوا تجنبهم.

شعب يعيش بالبحر وبجانبه آخرون مثله

ليس شعب الموكين هو وحده من يفهم البحر ويعيش معه وليحميه البحر ويسدد احتياجاته، بل تعيش مجموعات أخرى على نفس تلك الشواطئ وتنتشر على كل الجزر. أشهر تلك المجموعات هم شعب “اونغه” التي تعيش على الصيد البحري وتبني أكواخها العالية على أطراف الشواطئ فوق المياه مباشرة، وتعتمد حياتها بأكملها على البحر وتعيش بفطرتها أيضاً منعزلة عن العالم الخارجي. الشيء المشترك بينهم هو تفهمهم الكبير للغة البحر وكأنهم يسمعونه يتحدث، وهم أيضاً عند حادث تسونامي لم يفقدوا أحداً لأن بذلك اليوم المشؤوم وعلى غير عاداتهم انتقلوا جميعاً إلى رأس الجبل بكل ما يملكون قبل أن تغرق الشواطئ. ويحاول الباحثين فهم كيف عرفوا بالأمر مسبقاً ليتجنبوه بهذه الطريقة، ولكن بسبب قلة الموارد الدراسية المتاحة عنهم ولغتهم صعبة الفهم يكون التواصل صعباً جداً. الفكرة هنا تكمن في أن الإنسان البدائي مع الطابع الفطري يستطيع أن يفهم الطبيعة ويرى كل تغيراتها على إنه خطر قادم، تماماً حين رأوا انسحاب المياه مرة واحدة قبل التسونامي فاحترموا الطبيعة وفروا من وجهها. أما الإنسان العادي فيحاول فلسفة الأمور أو التحكم بها مع إنه لا يجب عليه سوى أن يتفادها ويحترم غضبها.

أخيراً عزيزي القاري هذا الشعب يعيش بالبحر ويختلف عن أي معتقد تعرفه ولكنهم ليس الوحيد بالعالم الذي يختلف أيضاً عن المعروف، ويجب علينا كبشر أن نحترم ثقافات الآخرين ونتعلم منها ولا نحاول كسرها.

سلفيا بشرى

طالبة بكلية الصيدلة في السنة الرابعة، أحب كتابة المقالات خاصة التي تحتوي علي مادة علمية أو اجتماعية.

أضف تعليق

2 + 8 =