تسعة
الرئيسية » دين » كيف مثلت خطبة الوداع دستورا للمجتمع الإسلامي الأول؟

كيف مثلت خطبة الوداع دستورا للمجتمع الإسلامي الأول؟

كانت خطبة الوداع التي ألقاها النبي محمد في حجته الأخيرة دستورا للمسلمين، حيث احتوت على أهم الحقوق المقررة لكل إنسان، كما ضمنت للمرأة حقوقها كاملة وشخصيتها المستقلة، وغير ذلك من المبادئ المهمة للمجتمع المتماسك.

خطبة الوداع

لا شك أن خطبة الوداع كانت آخر وصية جامعة ألقاها النبي محمد صلى الله عليه وسلم على الأمة الإسلامية، كان ذلك في حجة الوداع في العام العاشر من الهجرة النبوية، وقد قُبض النبي في العام التالي، ولم يحج بعد ذلك، وقد حضر هذه الحجة واستمع إلى هذه الخطبة حوالي أربعين ألف حاج من شتى بقاع الأرض الإسلامية في ذلك الحين، وقد أراد النبي من خلال تلك الخطبة الجامعة الشاملة أن يلخص مبادئ الإسلام وحقوق الإنسان في كلمات موجزة، تكون دستورا للمسلمين، يقوم عليه المجتمع الإسلامي، وتُؤسس عليه العلاقات بين الناس على مر التاريخ، ونفصل الحديث حول تلك المبادئ في هذا المقال من خلال: ما نص خطبة الوداع؟ كيف قررت خطبة الوداع مبدأ المساواة بين الناس؟ كيف يكون حفظ الدين؟ كيف قررت خطبة الوداع حفظ النفس البشرية؟ كيف يكون حفظ المال في الإسلام؟ كيف يتم حفظ الأعراض في الإسلام؟ كيف ضمن الإسلام حقوق المرأة؟

ما نص خطبة الوداع ؟

خطبة الوداع ما نص خطبة الوداع ؟

في يوم التاسع من ذي الحجة من العام العاشر للهجرة وقف النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا بين المسلمين، وبعد أن حمد ربه وأثنى عليه قال: أيها الناس، اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدًا.

أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، وإنكم ستلقون ربكم، فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلغت، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها، وإن كل ربًا موضوع، ولكن لكم رؤوس أموالكم، لا تَظلمون ولا تُظلمون، قضى الله أن لا ربا، وإن أول ربا أضع ربانا؛ ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله، وإن كل دم كان في الجاهلية موضوع، وإن أول دمائكم أضع دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب –وكان مسترضعا في بني ليث، فقتلته هزيل- فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية.

أما بعد أيها الناس، إن الشيطان قد يئس أن يُعبد في أرضكم هذه أبدًا، ولكنه أن يُطاع فيما سوى ذلك فقد رضي به مما تحقرون من أعمالكم؛ فاحذروه على دينكم.

أيها الناس، “إنما النسيء زيادة في الكفر يُضلّ به الذين كفروا، يحلونه عاما، ويحرمونه عاما؛ ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله”، ويحرموا ما أحل الله، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، و”إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم” ثلاثة متوالية ورجب الذي بين جُمادى وشعبان.

أما بعد أيها الناس، فإن لكم على نسائكم حقا، ولهن عليكم حقا، لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا، ولا يدخلن أحدا تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم، ولا يأتين بفاحشة، فإن فعلن ذلك فإن الله قد أذن لكم أن تعضلوهن، وتهجروهن في المضاجع، وتضربوهن ضربا غير مبرح، فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيرا؛ فإنهن عندكم عوان، لا يملكن لأنفسهن شيئا، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، فاتقوا الله في النساء، فاعقلوا أيها الناس قولي، فإني قد بلغت، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا بعدي أبدا؛ كتاب الله وسنة نبيه.

أيها الناس، اسمعوا قولي واعقلوه، تعلمُنَّ أن كل مسلم أخو للمسلم، وأن المسلمين إخوة؛ فلا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس، فلا تظلمُنَّ أنفسكم، اللهم هل بلغت؟ قالوا: اللهم نعم، فقال: اللهم اشهد.” رواه الألباني في (فقه السيرة: 454).

كيف قررت خطبة الوداع مبدأ المساواة بين الناس؟

لقد حرص النبي محمد صلى الله عليه وسلم أن تحتوي خطبة الوداع على أهم الأسس والمبادئ التي يحتاجها المجتمع الإسلامي؛ لتكون نبراسا يهتدي بها الحكام والقضاة والخطباء وعامة الشعب بعد ذلك، ومن أهم ما قررت وجوب المساواة بين جميع الناس فلا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، حيث قال: “يا أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم …” وبذلك يقرر مبدأ المساواة بين جميع البشر، فلا يتفاضل قوي على ضعيف، ولا يتعالى أبيض على أسود، ولا يتمايز عربي على أعجمي ولا أعجمي على عربي؛ فالجميع من أصل واحد هو آدم، وإن اختلفت الأشكال والأحوال، وقد حدد أن ميزان التفاضل والتمايز بين الناس لا يكون إلا بتقوى الله والخوف منه والإكثار من الأعمال الصالحة التي تثقل الميزان يوم القيامة أمام الله تعالى، تصديقا لقول الله تعالى: “إن أكرمكم عند الله أتقاكم”.

كيف يكون حفظ الدين؟

قرر النبي صلى الله عليه وسلم مبدأ الحفاظ على الدين، وأن الله أمره بتبليغه للناس، وأن الدين عند الله الإسلام، وفي سبيل ذلك فقد حدد المرجعية الأساسية للمسلمين لمعرفة شئون دينهم في مرجعين أساسيين من المراجع وهما: القرآن الكريم، السنة النبوية المطهرة، وإذا لم نجد ما نبحث عنه في هذين المرجعين نلجأ إلى القياس واجتهاد العلماء بعد ذلك، وقد أشار النبي في خطبة الوداع إلى هذين المرجعين المهمين في حفظ الدين بقوله: “باتباع كتاب الله وسنتي”، وقال: وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله وسنة نبيه”، فأساس الدين في التمسك والاعتصام بكتاب الله تعالى، وكذلك سنة نبيه التي ترتبط به، وقد قال الله عنه: “وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى”، وفي نفس الوقت لم يقرر الإسلام إرغام أو إجبار أحد على اتباعه أو اعتناقه بل قرر حرية العقيدة في ظله، وما على الرسول إلى البلاغ والتبيين فقط، فقال تعالى: “لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي”، وقال أيضًا: “لكم دينكم ولي دين”

كيف قررت خطبة الوداع حفظ النفس البشرية؟

قال صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع مخاطبا أمته: “أيها الناس، فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا…” ويتضح من خطبة النبي هذه أن حفظ النفس البشرية من المقاصد السامية في الإسلام، وكما لاحظنا فقد شدد على حفظ الدماء والأموال والأعراض، وذلك فيه تصديق لقول الله تعالى في سورة المائدة: “من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا”، وقال صلى الله عليه وسلم أيضا في معرض الحفاظ على النفس البشرية: “وإن دماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم نبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب…” وهنا نجده قد أبطل عادات الجاهلية جميعها، وأسس لدستور إسلامي يعتمد على العدل والمساواة ببن الجميع، حدد فيه الجزاء بالقتل على القاتل المتعمد، وبالدية على القاتل بطريق الخطأ؛ وذلك بهدف حقن الدماء البشرية، ومنع الاعتداء على الآخرين، والحد من الفوضى والعصبية القبلية.

كيف يكون حفظ المال في الإسلام؟

لقد تحدث النبي محمد في خطبة الوداع أيضا عن تحريم أخذ أموال الآخرين ظلما بدون وجه حق، فقال محرما غصب الأموال: “إنه لا يحل مال امرئٍ مسلمٍ إلا بطيب نفس منه”، وفي سبيل تحقيق هذا المطلب الضروري حرَّم الربا، فقال في خطبته ووصيته الأخيرة للمسلمين: “وربا الجاهلية موضوع، وأول ربًا أضع ربانا؛ ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله.” وهنا نجد أنه قد طبق العدل على أقرب الناس إليه وهو عمه العباس بن عبد المطلب؛ وبالتالي تتضح المصداقية ويظهر العدل والمساواة في ظل هذا الدين الحنيف، ومن هنا تُصان الأموال، ولا يحل التعدي عليها بأي صورة من الصور المحرمة، ومن ذلك أيضًا حرم أكل الميراث، فقال صلى الله عليه وسلم: “أيها الناس، إن الله قد قسم لكل وارثٍ نصيبه من الميراث، ولا يجوز لوارث وصية، ولا يجوز وصية في أكثر من الثلث.” حيث فرض الله تقسيم المواريث في القرآن، ولا يجوز مخالفة أوامر الله تعالى، ولا يحرم أحد من الميراث أو يبخس من نصيبه شيء.

كيف يتم حفظ الأعراض في الإسلام؟

من المبادئ القيمة التي قررها النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع حفظ الأعراض، حيث شدد على ذلك الأمر فقال: “وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا” وهذا التحريم يدل على فصاحة النبي وبلاغته، ولا عجب في ذلك؛ فقد أوتي جوامع الكلم، فقال في حديث آخر محذرا من الخوض في أعراض الناس: “المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده”، وقد لعن الله تعالى من يخوض في أعراض النساء في أكثر من موضع في القرآن الكريم، كما حكم على من يرمي المحصنات ويتهمهن في أعراضهن دون دليل أو شهداء بالجلد ثمانين جلدة، وعدم قبول الشهادة منه، بل حكم عليه بالفسق، وفي ذلك صون لكرامة المرأة، وحفظ للمجتمع من الشبهات والاتهامات الباطلة أو الشك في الأعراض والخوض فيها، ولا شك أن ذلك يؤدي إلى حفظ كيان الأسرة والتماسك بين أفراد المجمع، ويقوي أواصر المحبة، ويزيل البغضاء والشك من النفوس.

كيف ضمن الإسلام حقوق المرأة؟

خطبة الوداع كيف ضمن الإسلام حقوق المرأة؟

إن عدالة الإسلام في تكريم المرأة ومنحها حقوقها وصيانة كرامتها لا تقارن بأي قوانين وضعية أخرى، فقد وضح النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع ما على المرأة من واجبات وما لها من حقوق، حيث قال: “يا أيها الناس، إن لنسائكم عليكم حقا، وإن لكم عليهن حقا، لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، ولا يدخلن أحدا تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم، ولا يأتين بفاحشة، فإن فعلن ذلك فإن الله قد أذن لكم أن تعضلوهن، وتهجروهن في المضاجع، وتضربوهن ضربا غير مبرح، فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيرا؛ فإنهن عندكم عوان، لا يملكن لأنفسهن شيئا، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، فاتقوا الله في النساء….”، وفي ذلك دلالة واضحة على وجوب معاملة المرأة بالحسنى، وعدم ظلمها، أو القسوة في معاملتها، فكما إن عليها واجبات فإن لها حقوقا يجب أن تحصل عليها، والمرأة مكرمة في الإسلام سواء كانت بنتا أو أمَّا أو زوجة أو ابنة.

رغم اختلاف المصادر التي رُويت خطبة الوداع من طريقها ما بين الزيادة والنقصان إلا إنها تتفق جميعها على ورود تلك المبادئ التي ذكرت آنفا فيها، وسوف تظل تلك الخطبة دستورا شاملا لمجموعة من المبادئ السامية التي قام عليها المجتمع الإسلامي الأول في بدايته، وستظل نبراسا يهتدي به المسلمون إلى قيام الساعة، ومعينا من العظات لا ينضب ولا يجف، حيث تناول النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الوصية الجامعة: نص خطبة الوداع، وحق المساواة بين الناس، وضرورة حفظ الدين، وحفظ النفس البشرية، وحفظ المال، وكذلك حفظ الأعراض، إضافة إلى تقرير حقوق المرأة كاملة دون نقصان.

محمد حسونة

معلم خبير لغة عربية بوزارة التربية والتعليم المصرية، كاتب قصة قصيرة ولدي خبرة في التحرير الصحفي.