تسعة
الرئيسية » العمل » مهن » الصرامة العسكرية : كيف تساهم في التفوق في الحروب ؟

الصرامة العسكرية : كيف تساهم في التفوق في الحروب ؟

تشتهر الحياة العسكرية بوجود الصرامة فيه، وسواءً أحببناها أم لا، فإن الصرامة العسكرية هي المحرك الأساسي للتفوق العسكري للجيوش، وهذا ما نحاول تبيينه هنا.

الصرامة العسكرية

لابد أن تكون الصرامة العسكرية جزءا هاما من تدريب أي جيش. فكبداية للحديث – وبالاستناد إلى المنطق فقط دون التطرق إلى دراسات أو إحصائيات – الحروب في هذا القرن والقرن السابق – ومنذ انبثاق التكنولوجيا الحربية عموما – أصبحت عنيفة بشكل لا يُتخيل. وأصبح على كلا الفريقين المتحاربين – في حالة تساوي القوة – أن يخوضا حربا ضروسا ستكون نتيجتها كما مهولا من الخسائر في كل شئ على الجانبين.- وفي حالة عدم تساوي القوى – تهتم الدولة القوية بجانب الصرامة العسكرية في جيشها لتتمكن من التنكيل بالبلد الضعيف شر تنكيل ! العنف والشر ونقض اتفاقيات حقوق الإنسان – التي تنص على أبسط حقوق الفرد ! – قد انتشرا كثيرا في القرون الأخيرة. ولسنا بحاجة إلى البحث كثيرا والتمحيص أكثر للوصول إلى هذه النتيجة، سيكون علينا فقط أن نعصر قلوبنا جيدا ونتحلى بقدر هائل من البرودة ثم أخذ جولة سريعة في قنوات الأخبار. ستريك هذه الأخبار، وخصوصا أخبار الحروب وتصارع القوى، عن مدى قساوة هذا العالم وعدم اكتراثه ببعضه.

لذلك، وفي مواجهة هذا العنف والقسوة، كان لزاما على كل دولة أن تهتم بشدة بجانب الصرامة العسكرية في تدريب جيوشها، ليس لضمان التفوق في الحرب في الهدف الأول، ولكن لضمان صمود أفراد جيوشها عند أرض المعركة. والتأكد من عدم انهيارهم وقدرتهم على تحمل أعتى الظروف !

دور الصرامة العسكرية في تفوق الجيوش

ما هي الصرامة العسكرية ؟

ما هي الصرامة العسكرية تحديدا إذا ؟ ومن هي الدول ذات الصرامة العسكرية الأعلى، وكيف كان أداءها في الحروب ؟ ومن هي الدول ذات الصرامة العسكرية الأقل، وكيف كان أداءها في الحروب ؟ وما تأثير هذه الصرامة العسكرية على أفراد الجيش ؟ وأسئلة أخرى قد تتخلل خلايا الدماغ في محاولة للوصول إلى فهم بعضها. سنحاول في هذا المقال أن نجيب على بعض هذه الأسئلة بالإحصانيات والأمثلة .. ولا بأس بقليل من المنطق.

الصرامة العسكرية

الصرامة في اللغة، هي القسوة والتشدد. يقال: عامله بصرامة، أي عامله بقسوة وشدة. فالمقصود بمصطلح الصرامة العسكرية هنا هي التدريبات القاسية التي يتعرض ضباط الجيش لها في سبيل الوصول إلى قوة بدنية معينة، وكذلك الشدة في اتباع الأوامر الصادرة من القيادات وعدم المناقشة فيها للحفاظ على روح الجماعة للجيش، وحتى لا يتفرق شملهم تحت لواء واحد.

ما أهمية الصرامة العسكرية ؟

الصرامة العسكرية ما هي إلا محاولة من الجيش لتأهيل ضباطه لمواجهة أي نوع من أنواع الظروف، القاسية، العنيفة، الشديدة .. أو حتى تلك التي لم يتعرضوا إليها بعد ! والأغراض التي تطمح أن تصل إليها الصرامة العسكرية قد تكون:

تحقيق قوة بدنية عالية

التدريبات الشاقة والقاسية التي يتعرض لها الجنود داخل الجيش، سواءا كان تسلق مرتفعات، الزحف تحت أسلاك شائكة، القفز بين أشياء مشتعلة والتدرب على أساليب القتال البدنية المختلفة، ما هي إلا محاولة لتحقيق قوة بدنية عالية تمكن الجندي من الحركة السريعة والمتمكنة في أرض الميدان في حالة الحرب أو أي حالة تأهب عموما.

محاكاة أرض المعركة

ليس كل من انضموا إلى لواء الجيش، هم أشخاص حاربوا في أرض معركة من قبل، أو حتى اقتربوا منها. هناك الكثير من هؤلاء الجنود الذي لم يشاركوا في حرب واحدة طيلة حياتهم. يجب أن يكون هؤلاء الجنود على أتم استعداد لمواجهة أي شئ قد يجدونه في أرض المعركة. وفي سبيل ذلك، تلجأ الصرامة العسكرية إلى محاكاة أرض المعركة في مقر التدريب نفسه، وتعبئته بما يتطلبه الأمر ليطابق أرض معركة حقيقي، بما في ذلك النيران والقنابل والخوف والرعب وكل الظروف الجسدية والنفسية الممكنة. فبهذه الطريقة سيكون الجندي قد تخطى حاجز خوف المواجهة الأولى وأصبح على أول طريق المواجهة الحقيقية.

التنظيم لضمان التفوق

ربما تكونون قد شاهدتم العروض العسكرية شديدة الدقة والتنظيم في التلفاز عن أية مناسبة عسكرية أو قومية، حفلات تخرج الجنود أو حتى زيارة شخصية هامة للبلاد. هذه العروض تتميز بدقة متناهية وحسابات دقيقة لكل سنتيمتر من الحركة بين كل جندي من الجنود. هذه الدقة لا تقتصر على العروض العسكرية فقط، بل هي مصنوعة خصيصا لأرض المعركة في الحقيقة.

بالتأكيد، في أرض المعركة، سيفيدك كثيرا أن تفكر وتصل لحلول عبقرية للنفاذ من موقف صعب مثلا. ولكن لن تكون لدى الجندي رفاهية التفكير طيلة الوقت ! فالأحداث في أرض المعركة تكون سريعة جدا، أسرع من محاولة بسيطة للتفكير في حلول. لذلك، كان من الحتمي وجود تدريبات وأوامر مسبقة يتبعها الجنود في مختلف المواقف، ويجب على هذه الأوامر أن تكون دقيقة جدا وواضحة جدا، لأن اختلاف سنتيمتر واحد عن هذه الأوامر قد يكون نتيجتها خسارة فادحة. لذلك، كانت الصرامة العسكرية في تنظيمها لحركة الجيش داخل وخارج أرض المعركة، من الأسباب الأساسية للتفوق في الحروب.

أنواع مختلفة للتدريبات العسكرية

للحصول على رؤية أفضل لما يعنيه مصطلح الصرامة العسكرية على أرض الواقع. دعونا نذهب في رحلة للتعرف على أنواع مختلفة من التدريبات التي يتلقاها الجنود في جيوش تعد من أصعب برامج التدريب الجيشي في البلاد المختلفة.

الزحف على الحجارة

ربما تظن أن الزحف على الحجارة المتعرجة ستعطيك الكثير من عدم الارتياح كنتيجة متوقعة لعدم استواء السطح الذي تزحف عليه. لكن صدقني عزيزي القارئ، ليس هذا هو النوع الذي نتحدث عنه هنا !
تخيل معي المشهد مجددا، شمس ساطعة بشدة في السماء، وحجارة ذات أطراف مدببة وأسطح خشنة، ومجند منزوع القميص. ثم تخيل الآن هذه المجند وهو يزحف على هذه الحجارة تحت تلك الشمس ! هذا نوع من أنواع التدريبات المستخدمة في البحرية التايوانية !

الزحف في الوحل

الآن، إذا وجدت نفسك في أرض المعركة وأمامك بركة كبيرة من الوحل، والطلقات النارية تأتي من كل صوب فوق رأسك. ما الذي يجب عليك فعلة بسرعة ؟! ستنبطح بسرعة فهد ينقض على فريسة طبعا وستحتمي بالوحل متجاهلا كل رغباتك الآدمية في التقزز من هذا الفعل في سبيل الحفاظ على حياتك. وستضطر أيضا للزحف والابتعاد عن المكان بأقصى سرعة. ولكن ليس الأمر بهذه السهولة إطلاقا. فعند الزحف في الوحل يمتلئ جسدك بالطين والماء، ويعمل هذا على الحد من قدرتك على الحركة، وربما – إذا كان الجو مشمسا بما يكفي – نشف الوحل حول جسدك وأصبحت الآن عاجزا تماما عن الحركة. ماذا ستفعل إذا لم تكن مجهزا لموقف مثل هذا من قبل ؟!

في التدريبات العسكرية، وأمرا نابعا من الصرامة العسكرية ، يتعلم الجنود طريقة الزحف في الوحل متحدين كل المعوقات، وبسرعة جدا حتى لا يتعرضوا لخطر تصلب الوحل حول أجسادهم. ولا تنسوا وقع طلقات الرصاص المتبادلة في الأعلى هناك !

الزحف تحت النار !

كأن الحجارة الخشنة والوحل المتصلب ليسا كافيين لمحاكاة أرض المعركة. الآن تخيل معي قنابل وقذائف كثيرة تلقى على الطرفين. لا بد أن هذا سيخلف قدرا كبيرا من الحرائق في المكان. كيف تكون لديك الشجاعة الكافية للمرور بين وتحت هذه النيران إذا ؟ وكيف تكون لديك الصلابة الكافية لتحمل حرارة النيران هذه إذا ؟ يقولون أن التدريب المستمر يصنع المعجزات، فإذا تعرض الجندي إلى هذا الموقف لأول مرة في أرض المعركة، احتمالية أن ينجو ستكون ضئيلة جدا. لكن احتمالية أن ينجوا من هذا الموقف بعد أن تدرب عليه أكثر من مرة سابقا، ستكون عالية بكل تأكيد.

حبس الأنفاس تحت المياه

تخيل الآن أن هناك طلقات نارية دائرة بين الطرفين في المعركة. نحن نضرب الطلقات بغزارة، والطرف الآخر يحاول الاختباء منها، ثم يبدأ الطرف الآخر في إطلاق الرصاصات، وعلينا نحن الاختباء. وكان أمامنا بحيرة عميقة أو نهر. ماذا سنفعل ؟! أجل سنقفز بالتأكيد، ولكن كيف بالضبط سنقفز ؟! أقصد إذا قفزت إلى البحيرة ولكن رأسك ما زال مرئيا لمطلقي النيران .. فوداعا عزيزي، أنت أسهل فريسة لقناص غير متمكن حتى ! سيتوجب عليك أن تغطس تحت الماء، وأن تحبس أنفاسك لأطول مدة ممكنة حتى يتوقف إطلاق النار أو ينتهي الخطر المحدق. تخيل الآن إذا أن هذه كانت المرة الأولى لك لتحاول الغطس للحفاظ على حياتك، بعد ثلاثين ثانية فقط انتهى الأكسجين من رئتيك وأصبح لزاما عليك أن تحصل على المزيد من الهواء. وخياراتك الآن أصبحت منحصرة في الخروج إلى سطح الماء والحصول على رصاصة في رأسك، أو البقاء تحت سطح الماء وامتلاء رئتيك بالماء ! في سبيل النجاة من موقف كهذا، يجب أن تكون متدربا كفاية لتحتفظ بأنفاسك أطول مدة ممكنة تحت الماء. وكما قلنا، التدريب يصنع المعجزات. فبالممارسة الدائمة لمحاولات حبس الأنفاس، يصل الفرد أحيانا إلى القدرة على حبس الأنفاس لمدة سبع دقائق كاملة !!

– 22 درجة مئوية !

الشرطة الصغيرة قبل الرقم ليست غلطة مطبعية، المقصود بها هنا هي علامة السالب الحسابية. أي أن بعض التدريبات تتم في درجات حرارة تحت الصفر باثنين وعشرين درجة مئوية ! أعتقد أن عند هذه الدرجة قد يتجمد الثلج نفسه !

لكن دعونا لا ننسى ما حدث في الحرب العالمية، وكيف أن الجيش الألماني الذي كان يطيح في كل مكان هنا وهناك، لم تهزمه سوى ثلوج سيبيريا التي لم يكن الجنود على أية علم سابق بها وبأحوالها. فإن الصرامة العسكرية في تدريب كهذا ليس غرضه الإجحاف بحق الجنود، وإنما محاولة للتعلم من الأخطاء السابقة. فلا أحد يعلم أين ستكون الحرب القادمة ولا كيف ستكون.

تسلق الجبال

لا، ليس الرياضة المعروفة. المقصود بتسلق الجبال هنا هو الهرب للحفاظ على حياتك ! تخيل أن سبيلك الوحيد للهروب من خطر محدق هو تسلق جبل عالى والاختفاء من الأنظار. كيف ستتمكن من ممارسة رياضة خطيرة كهذه في ظروف عصيبة كتلك ؟! تسلق الجبال وأنت في كافة وسائل الحذر الممكنة لا يزال يعد نوعا من أنواع المخاطر على النفس، كيف إذا وأنت تتسلقه في محاولة للحفاظ على حياتك ؟! يجب أن يكون الجندي على أهبة الاستعداد للتصرف في ظرف كهذا للحفاظ على حياته وللتمكن من معاودة القتال مرة أخرى بعد زوال الخطر المنتظر. والتدريب المستمر هو ما سيجعل لحظة المواجهة الحقيقية أسهل بكثير من محاولتها لأول مرة تحت وطأة الخطر الحقيقي.

الغابة ودم الثعابين

أيضا لا، هذه ليست عنوان رواية ما. من ضمن التدريبات التي يخوضها الجنود، تدريبات موجودة في الغابات. التدريب على طريقة التعامل مع الطبائع البيئية المختلفة والاستفادة بأكبر قدر من الموارد الموجودة بها. والغابة بالتحديد قد تكون وسيلة شديدة الفعالية للتخفي وتكوين خطط حربية شديدة الفعالية. أما دماء الثعابين فقد يجعلك الجيش مضطرا لشربها، ربما لزيادة صلابتك الداخلية أو ربما لاحتوائها على ترياق في حالة لدغ أفعى لمجند من الجنود مثلا مع غياب الإسعافات اللازم لإنقاذه.

القفز من الهليكوبتر

لا بد أنك رأيت هذا المشهد مرات مختلفة في الأفلام والمسلسلات. طائرة هليكوبتر معلقة في السماء، يتدلدل منها عدة حبال متينة وعلى متن هذه الحبال أشخاص يرتدون ملابس مشبحة في طريقهم إلى الأسفل – أو الأعلى -. وعند الوصول إلى نهاية الحبل، يقوم هؤلاء الجنود بالانتشار والإجهاز على أي عدو. وبالطبع الموسيقى التصويرية الحماسية تكون دائرة في خلفية المشهد لإفراز الأدرينالين في جسد المشاهد وإشراكه بكافة حواسه في المشهد. لكن الواقع ليس بهذه الرومانسية إطلاقا عزيزي القارئ !

المشهد يكون بطائرة معلقة في الهواء بطريقة ليست سهلة على الإطلاق، وحبل معلق يتحكم فيه تيارات الهواء القادمة من جميع الاتجاهات، وشخص معلق عليه أن يضع كافة تركيزه في النزول على الحبل بكل دقة ممكنة وعدم الرهاب من الموقف المخيف حوله. وفوق كل هذا، عليه أن يبدأ بالتحرك فورا لحظة وصوله إلى الأرض – لا أعرف كيف ستتصرفون أنتم في هذا الموقف، لكن شخصيا، أظن أنني سأنبطح على الأرض فور وصولي وسأقضي نصف ساعة فقط في محاولة الاقتناع بأني أخيرا فوق أرض صلبة – وأيضا بدون موسيقى تصويرية حتى !! يا لسوء الحظ !

للتمكن من القيام بكل هذه الأمور التي بإمكانها قتلي شخصيا قبل حتى التعرض للمواجهة الحقيقية، يجب أن يكون الجندي ممارسا بكثرة لمثل هذا النوع من التدريب.

مواجهة تجريبية للعدو

في كثير من الأحيان لا يكون التدريب لمحاكاة أرض معركة مجهولة أو محتملة الحدوث. فربما يكون العدو معروف مسبقا وظروف الحرب معروفة. في هذه الحالة يكون التدريب مكثفا أكثر حول الظروف المشتركة للعدو والدولة المعنية، وكذلك نقاط الضعف والقوة لدى العدو. من أمثلة هذه التدريبات، التدريبات الفلسطينية لمقاومة الاحتلال الفلسطيني، والتدريبات الإسرائيلية لقمع القوات الفلسطينية. التدريبات العراقية لمحاربة جماعة داعش، والتدريبات السورية لمحاربة نظام الحكم وقواته. والتدريبات الأمريكية لقمع البلاد الضعيفة وطريقة إحكام السيطرة عليها.

تعتبر هذه أمثلة على سبيل العد لا الحصر للتمرينات المكثفة كدليل على الصرامة العسكرية في النظم الجيشية المختلفة حول البلاد، وأهمية هذه التدريبات عند تطبيقها في أرض المعركة.
هل فعلا تساهم الصرامة العسكرية في التفوق في الحروب ؟

استنادا إلى كل ما سبق ذكره من ظروف قاسية توجد في مواقع الحروب، وتدريبات مهمة لمحاكاة أرض المعركة قبل الوصول إليها. يتبين لنا أن الصرامة العسكرية تلعب دورا كبيرا في الحفاظ على جيش قوي ومستعد لأية ظروف مفاجئة أو متوقعة على وشك مواجهتها. فإن الصرامة العسكرية والالتزام الشديد من الجنود هما ما مكنّا ألمانيا من انتصاراتها المتوالية في الحرب العالمية، حتى هزمتهم الظروف البيئية التي لم تكن في الحسبان إطلاقا.

وكذلك الصرامة العسكرية في أمريكا هي ما جعلت الجنود الأمريكيين قادرين على غزو بلاد ليس بذات قوتهم والعيث فيها فسادا. وأيضا الصرامة العسكرية الإسرائيلية هي ما مكنتها من غزو فلسطين واحتلال أراضيها، وفي مصر، كانت الصرامة العسكرية هي من الأسباب في الانتصار في حرب أكتوبر.

الأمثلة كثيرة ومختلفة، ويشترك في كل هذه الأمثلة الصرامة العسكرية والالتزام بالتدريبات والأوامر الضرورية للتفوق في الحروب. ولكن علينا أن نؤكد أن الصرامة العسكرية ليست هي كل ما يلزم للتفوق في الحروب. فهذه الصرامة تنشأ أولا من سلطة ذكية في الحروب والمناورات، تضع خطط حكيمة للحروب منذ البداية، فانعدام بعد نظر هذه السلطة هو ما أدى إلى فشل ألمانيا مثلا ، حيث لم تضع في حسبانها كل الظروف المحتملة. وأيضا الأسلحة وتطورها يكونان من الأسباب الرئيسية في نجاح الحروب أو فشلها كما حدث في النكسة المصرية عام 1967 ميلاديا. فإن الصرامة العسكرية تعتبر ركيزة من ركائز التفوق في الحروب، لكنها ليست الركيزة الوحيدة في سبيل ذلك الهدف.

ما الثمن المدفوع في مقابل الصرامة العسكرية ؟!

لا، لن نتحدث في هذا الجزء عن الوقت، الجهد، الأموال أو التكنولوجيا التي تستهلكها تلك التدريبات في سبيل تحقيق أفضل نتيجة أثناء التدريب وأثناء الحرب. لكننا سنتحدث عن جانب آخر لا يقل أهمية عن تلك المواضيع المادية المختلفة. سنتحدث عن التأثير النفسي الذي يدفعه هؤلاء الجنود كثمن باهظ في سبيل الوصول إلى تلك الحالة البدنية والعسكرية !

أجل، النتائج الإيجابية من هذه التدريبات هي الحصول على قوة بدنية عالية، قوة تحمل شديدة الفعالية، سرعة بديهة وتصرف رائعين، وأيضا النتيجة الأكثر أهمية والتي من أجلها يتم كل هذه التدريبات، الحفاظ على أمن البلاد من الأخطار الخارجية والتوسع في موارد البلاد متى وجدت فرصة لذلك. لكن كل هذه مصالح مادية تتحقق من جراء هذه التدريبات، ماذا يحدث أيضا للجنود على الناحية النفسية – والجسدية كذلك – كمقابل لكل هذه الإنجازات الرائعة ؟

الصدمات النفسية

النفس البشرية ليست مهيئة لرؤية الخراب والدمار والقتل والدماء. النفس البشرية مهيئة لرؤية الهدوء والسلام والجمال، وهذا هو ما ترتاح في وجوده وتحاول الوصول إليه. لذلك، عندما يتعرض الفرد إلى جرعة مكثفة من تلك الظروف القاسية وغير الآدمية، يدخل الإنسان في حالة صدمة نفسية عنيفة. قد تتسبب هذه الصدمة في آثار واضحة كعدم القدرة على التحدث أو العمل، أو أعراض الاكتئاب أو القلق المرضي. وربما عجزهم عن مواصلة الحياة بالطريقة الطبيعية التي كانوا يمارسونها بها من قبل. وربما يكون التأثير معاكسا تماما، حيث تتمثل الصدمة النفسية في تغير تصرفات الفرد تماما وتحويله إلى شخصية وحشية سريعة الغضب والبطش، وكثيرة الانفعال والعصبية ! في كلا الحالتين يكون الأمر مدمرا للفرد نفسه وللأشخاص المحيطين بهم عند عودتهم إلى ديارهم، فلا الأول قادرا على القيام بأي عمل بشكل سليم، ولا الثاني قادر على أن يقدم الحب والرعاية الذي كان قادرا على تقديمهما.

الإصابات الجسدية

كما تكون الظروف المحيطة بأرض المعركة قاسية وعنيفة، كذلك الإصابات الناتجة عن تلك المعركة. ففي أرض المعركة تكون الانفجارات والطلقات عنيفة جدا ومجنونة تماما. ورغم وجود طاقم الأطباء اللازم للجراحة حين احتياجها، إلا أنه ورغم أية محاولة ممكنة، سيظل الموقع أرض معركة ولن يمكن تجهيزه بكل الأجهزة المطلوبة. هذان السببان يؤديا إلى أن الإصابات الناتجة تكون عنيفة جدا وكثيرا ما تشمل بتر لعضو أو أكثر من الجسد. بالإضافة إلى ما يتسببه هذا البتر من فقد القدرة على التحكم في الجسد عموما، وبالتالي عدم القدرة على ممارسة أنشطة الحياة اليومية بما يتضمنه القدرة على العمل. يوجد أيضا الأضرار النفسية الناشئة عن تحول شخص بكامل صحته وعافية بين ليلة وضحاها إلى شخص لا يتمكن من القيام بأبسط احتياجاته الشخصية. والصدمات النفسية في هذا النوع تكون أعنف بمراحل من الصدمات النفسية الناتجة عن تلك المذكورة في النقطة السابقة.

العبثية

ربما كان المبرر الذي من أجله خرج أي شخص من أجل الحرب أو تطوع في الجيش، هو من أجل الحفاظ على حماية بلده من المخاطر والشرور. لكن في الحقيقة، وبعد حدوث الإصابات التي لا يمكن عكس تأثيرها، يبدأ التكشف للحقيقة التي من أجلها خرج هؤلاء الأشخاص من أجلها، وهي العبثية المطلقة. فالحروب نادرا ما تكون من أجل حماية دولة من أخرى، وإنما تكون من أجل حماية مصالح حزب على حزب. ففي النهاية يكون طرفي النزاع في الحروب هم مواطنون من كلا البلدين، ولكن السبب الذي يتقاتل من أجله هذان الطرفان هو مصلحة قيادات دولهم العليا. رغبة أحدهم في الحصول على بعض القوة الإضافية أو بعض المال الإضافي. وكأن هذه أسباب تستحق أن تهدر من أجلها دماء وتدمر من اجلها مباني وأماكن بيئية !

تكشف هذه الحقيقة للشخص بعد فقد ما فقده، تزيد في حدة الصدمات النفسية التي يتعرض لها، وإحساس أن كل ما فعله كان هباءا ولم يكن من أجل شئ. وغالبا ما تكون هذه هي المشكلة الأكبر في حياة كل شخص فقد شيئا في الحرب، خوفه من أن يكون كل ما فقده هذا من أجل اللا شئ.

في نهاية هذا المقال، لا أحاول أن أقول بأن مقاومة الضرر المحدق بالبلاد هو شئ خاطئ، بل هو شئ في غاية الأهمية. وحماية الأشياء التي تعني لنا أكثر من أنفسنا هو أمر في غاية النبل. لكن علينا دائما أن نقف على مسافة محايدة من كل شئ، ونحاول التوصل إلى السبب الرئيسي وراء تلك الحرب، ومن المستفيد منها وكيف ولماذا. علينا أن نفهم أولا لماذا نشارك في تلك الحروب نضحي بكل تلك الأشياء التي لا تشترى، قبل أن نجد أنفسنا وصلنا إلى نهاية الطريق بخسائر فادحة نصلي كل يوم لمجرد أن لا تكون قد حدثت هباءا .. مقابل لا شئ.

أفنان سلطان

طالبة جامعية، أهوى القراءة واعتدت الكتابة كثيرا منذ صغري. على أعتاب التخرج ولا أدري بعد ماذا سأفعل.