تسعة
الرئيسية » صحة وعافية » السبات الشتوي : كيف انتقل السبات الشتوي من الحيوان إلى الإنسان؟

السبات الشتوي : كيف انتقل السبات الشتوي من الحيوان إلى الإنسان؟

تعرف حالة السبات الشتوي بأنها حالة خمول تصيب بعض أنواع الحيوانات في فصل الشتاء، وذلك للحفاظ على الطاقة والنجاة في هذا الفصل، لكن كيف أصبح الإنسان يسبت؟!

السبات الشتوي

السبات الشتوي هو الحالة التي يدخل فيها الحيوان خاصة الذي يعيش في المناطق شديدة البرودة في الشتاء. حيث يبدو كالنائم، ولا ينفق بذلك الكثير من الطاقة في محاولة مقاومة برودة الشتاء. فيمكنه السبات الشتوي من البقاء حياً والخروج من مرحلة الشتاء القارصة والتي تهدد حياته. في هذا المقال نتساءل حول ما إذا كان الإنسان قادراً هو الأخر في الدخول إلى حالة السبات الشتوي. حتى يمنحه هذا قدرة أكبر على مواجهة الظروف البيئة الصعبة. وسنتكلم في خلال هذا السؤال عن السبات الشتوي بشكل عام وأهميته.

هل السبات الشتوي خاص بالحيوانات فقط أم أن الإنسان يسبت شتويًا أيضًا؟

هل هناك تجربة حية على ظاهرة السبات الشتوي مع الإنسان؟

هذا السؤال مهم جداً، وهو يجاوب عن لماذا نسأل عن إمكانية السبات الشتوي للإنسان. فلابد أن توجد تجربة أو حتى صدفة، جعلتنا نعتقد أن الإنسان قادر على الدخول إلى حالة السبات الشتوي تماماً كالحيوان. تلك الصدفة جاءت في عام 1999، ومع الدكتورة آنا إليزابيت، من السويد. حين سقطت آنا في بحيرة متجمدة وبقيت هناك لأكثر من ساعة كاملة تحت الماء. في تلك البحيرة المتجمدة، وصلت درجة حرارة آنا إلى 13.7، وهي بالتأكيد درجة مئوية تعني الموت. بعد ذلك الوقت وصل أخيراً المنقذون والإسعاف، ليجدوا قلبها قد توقف تماماً، وبؤبؤ العين لا يتجاوب مع الضوء، ولا تتنفس أيضاً. وكأي طبيب عاقل سيقول بأنها ميتة كلينيكياً. ولكنهم لم يستسلموا بل بدئوا في إجراء عملية إنعاش، وإعادة إيحاء، ووفروا لها الأوكسجين.

المدهش أن بعد ساعة كاملة من تلك الإجراءات، بدء القلب بالخفقان مرة أخرى، وبدأت تتنفس ثم عادت إلى الوعي، بكلمة أخرى قد عادت إلى الحياة. والأكثر إدهاشاً أن نقص الأكسجين في الدماغ، لم يصبب أي ضرر كما هو المتوقع. لأن بعد كل ذلك قد تصاب خلايا الدماغ بالتلف. تلك الحادثة هي مثال حي للسبات الشتوي في عالم الحيوان والإنسان. لأن السبات الشتوي قادر على إدخال الحيوان في حالة شبه موت، وبذلك يتغلب على البيئة القاسية من حولها. ولا يتعرض للأضرار الحيوية الممكنة في الدماغ بسبب نقص الأكسجين. ومن هنا بدأ عمل العلماء على إدخال الإنسان في حالة سبات شتوي كامل بشكل مقصود. ويبدأ ذلك مع كل عضو بمفرده، وحين يتمكنون من كل الأعضاء الحيوية الأساسية، سيدخلون إلى مرحلة الإنسان بأكمله.

قضية الأكسجين المعقدة

منذ قديم الزمن ويعرف الإنسان بشكل علمي أو عملي، أنه لا يستطيع الحياة بدون أن يتنفس، أي بدون أكسجين. وذلك لأن كل خلية في جسمه تستخدم ذلك الغاز في عملية إنتاج الطاقة. وبدون تلك الطاقة لن تعيش. فلو انقطع تدفق الدم إلى خلية معينة لأي سبب من الأسباب، وتوقف معها إمداد الأكسجين، ستموت الخلية بعد دقائق معدودة. حتى إن من أولى إجراءات الإنقاذ هو توفير أكسجين كافي. في هذا الأمر بدء الجدال بين العلماء، كيف يمكن أن يتوقف تدفق الأكسجين إلى الجسم بدون أن يموت؟

الدراسات الحديثة أجابت على هذه القضية بشكل مبهر. واتضح الأمر أن انقطاع الأكسجين التام عن الخلية، ليس هو سبب الموت. بل وصول الأكسجين بشكل محدود وقليل، هو سبب الموت. حين يتوقف تماماً وفجأة، تتوقف معه كل التفاعلات البيو كيميائية، وهي تفاعلات الكيمياء الحيوية داخل الجسم. بمعنى أخر تتوقف الخلية عن الحياة كما لو أنها شريط فيديو تم إيقافه مؤقتاً، لتعود ثانية بشكل طبيعي مع عودة الأكسجين. أما وصول الأكسجين بشكل قليل، يجعل التفاعلات لا تتوقف بشكل كامل، وتظل الخلية ترهق نفسها حتى تموت.

مثال حي في عالم الديدان

هناك دودة تسمى “Caenorhabditis elegans” وهي من الديدان الأسطوانية. تلك الدودة قادرة على البقاء حية في منطقة يقل فيها نسبة غاز الأكسجين عن 0.001%. لأنها تتحول إلى حالة سبات شتوي، ومن يرى هذه الدودة في ذلك الوقت سيقول بأنها ميتة. ولكنها تعود إلى الحياة فور وصول الأكسجين إلى 0.5%، وكأنها لم تصل إلى حافة الموت أبداً. ويعتقد العلماء بأنهم قادرين على جعل الإنسان يقود بمثل تلك العملية.

لماذا يحتاج الإنسان إلى السبات الشتوي؟

هنا سنسأل لما علينا التفكير في ذلك الأمر من الأساس؟ وما الذي ستستفيد به البشرية لو تمكنت من الدخول إلى حالة السبات الشتوي؟ أولاً: عملية نقل الأعضاء من مريض متوفي حديثاً، ولكن بعض أعضاءه مازالت على قيد الحياة، هي عملية مرهقة ونتائجها ضعيفة. وذلك بسبب عدم بقاء الأعضاء الحيوية حية لوقت طويل. فالقلب على سبيل المثال، لم يتمكن الأطباء من إبقاءه حياً، سوى لمدة 12 ساعة، وبمساعدة جهاز يسمى Portable Organ Preservation. والكلية أيضاً لم تصمد سوى ل24 ساعة فقط. هذه المدة قد لا تكفي لنقل العضو من مكان إلى لأخر لمن يحتاجها. وحتى إن وصلت فلن تصمد في عملية النقل. أما إن تمكن الطبيب من إدخال العضو أو المريض بأكمله إلى حالة سبات شتوي، ستصل في وقت مناسب. وسيكون للأطباء الجراحيين الوقت الكافي لإجراء عميلة النقل بكفاءة.

ثانياً: أغلب أفلام الخيال العلمي التي تتحدث عن قدرة الإنسان للوصول إلى كوكب أخر أو مجرة أخر، تتحدث أيضاً عن عملية السبات الشتوي. فلن يصل الإنسان إلى وجهته أبداً التي تبعد عنه مئات السنين الضوئية حياً. ولكنه سيموت في الطريق إن لم يكن هناك من يبقيه حياً في الطريق. ثالثاً: حتى إن وصل الإنسان حياً بعد مئات السنين إلى وجهته، سيكون عجوزاً جداً وهرماً. أما هدف السبات الشتوي أساساً هو توقف كل العمليات الحيوية داخل الجسم، فلن يكبر الجسم ولن يشيخ. وسيظل عنده القدرة على البقاء شاباً طوال هذا الوقت. سيكون الأمر بمثابة غفوة لمدة مئات السنين ثم الاستيقاظ بعدها وكأن شيئاً لم يكن. وكأنك تنام أنت اليوم في سنة 2017، لتستيقظ وتجد نفسك شاباً أيضاً تماماً في مثل عمرك سنة 2317. فقط تخيل الأمر!

رابعاً: على المستوى النفسي، قد يفكر شخصاً ما في الانتحار، لمجرد أنه لا يريد أن يعيش في تلك الحياة، في ذلك الزمن، مع هؤلاء البشر مرة أخرى. ولكنها إن دخل في حالة سبات شتوي لمدة طويلة، سيتيقظ في عالم أخر حرفياً، زمن أخر، بشر مختلفين لأن من يعرفوا بتأكيد قد ماتوا، حياة أخرى جديدة مع تكنولوجيا المستقبل. قد يكون الموضوع خيالاً علمياً صعب على العقل أن يصدقه، لكنها فرضية مهمة. خامساً: قصة السبات الشتوي تهتم لها وكالة ناسا الفضائية بشكل كبير. لأنها تنفق المليارات على البشر التي ترسلهم إلى الفضاء. لأن البشر يحتاجون إلى رعاية كبيرة لتوفير احتياجاتهم. أما لو دخلوا في سبات شتوي في وقت طويل من الرحلة، فلا يحتاجوا إلى كل تلك الأموال.

غازات سامة للبقاء حياً

بعام 2004 تمكن العالمان مارك روث وتود نستيول، من إثبات أن غاز أكسيد الكربون هو من أنقذ حياة دودة Caenorhabditis elegans. تلك التجربة تم إجراءها في جامعة سيتله الأمريكية، على الدود الذي قارب على الموت. وتم إعطائهم غاز أكسيد الكربون، ليتحد الغاز مع كرات الدم الحمراء ويمنع وصول الأكسجين القليل إلى الخلايا. وبذلك دخلت الدودة في سبات شتوي ولم تمت. إلا إن تلك التجربة ستكون مستحيلة على الإنسان، لأنه لو اتحد أكسيد الكربون مع كرات الدم الحمراء، فبالفعل لن ترتبط الكرات مع الأكسجين ولن يصل إلى الخلايا. ولكن إعادة تحرير كرات الدم الحمراء من أكسيد الكربون، عملية صعبة أو مستحيلة. لذلك فهو يعتبر غاز سام ولن يتمكن الإنسان من استخدامه.

ولكن ذلك لا يعني النهاية، فقد أجروا أيضاً بعض التجارب الأخرى على غازات سامة أخرى. وفي تجربة مدهشة جداً بعام 2005، قاموا بوضع فأر في غرفة مع غاز الكبريت الهيدروجيني. بعد فترة وجيزة سقط الفأر على الأرض، بدون أي علامة من علامات الحياة. بلا نبض أو تنفس. أما درجة حرارة جسمه فكانت تأخذ نفس حرارة الغرفة، حتى وصلت إلى 15 درجة مئوية فقط. بعد ستة ساعات كاملة، ملأ العالمان الغرفة بغاز الأكسجين. والمدهش أن الفأر عاد إلى الحياة مرة أخرى بالتدريج. وكل علاماته الحيوية ممتازة، ولا يوجد أي أضرار في الدماغ أو بباقي الأعضاء.

نظرية مثيرة للجدل

نظرية المقدرة على الحياة في انعدام الأكسجين بشكل كلي، والموت عند توفره بشكل جزئي، هي نظرية مثيرة للجدل. فلا توجد دلائل علمية ثابتة لتفسير هذا الأمر. ولكن المرجح هو أن حرق الطاقة داخل الخلية أثناء وجود قلة في الأكسجين، حرق غير نموذجي. وينتج عنه مواد كيميائية مضرة للخلايا، منها الراديكال الحر. المنتجات التي تخرج من الخلية وهي على وشك الموت، لا تؤذيها هي فقط، بل أيضاً تؤذي من حولها. وتبدأ سلسة كبيرة من التفاعلات المضرة التي تدمر نسيج كبير من الخلايا. إلا إن في السبات الشتوي، وعدم توفر الأكسجين بشكل كامل، لا تمتلك الخلية ما يكفي من الطاقة لعمل تلك التفاعلات. فلا ينتج مواد مضرة ولا تموت، ولا تدمر من حولها.

في أخر الدراسات التي أجريت في السنوات الأخيرة، فهم العلماء ظاهرة السبات الشتوي بشكل أكبر. إنه ليس مجرد توقف للإحراق وإنتاج الطاقة داخل الخلايا في الحيوان. وإنما عملية كاملة تنفذها الخلايا من أجل البقاء على قيد الحياة، والصراع مع الموت.

إذاً هل الإنسان قادر على الدخول إلى مرحلة السبات الشتوي؟

لا يؤكد العلماء والأطباء بشكل أكيد، على قدرة الإنسان أو عدمها. وتبقى فقط التكهنات على الطاولة. ويظل الخيال العلمي للروايات والأفلام متأكدين من هذه الإمكانية يوماً ما. ولكن هناك مؤشرات إيجابية على أرض الواقع، فمثلاً قدرة العلماء على جعل الفئران يدخلون إلى عملية السبات الشتوي بشكل صناعي. أي إنهم لا يملكون تلك القدرة في الحقيقة.

كما توجد تجربة أخرى في جامعة بيتسبرغ الأمريكية بعام 2004. حيث قام العلماء بشق بطون ثمانية كلاب، وتركوا الدم ينزف إلى إن توقف القلب تماماً عن النبض، وكأن هناك حادثة مفجعة قد حدثت لهم بالفعل. كما تركوهم لمدة دقيقتين من أجل التأكد من أنهم قد ماتوا بالفعل، أو بمعنى أخر قد بدأت الخلايا في الموت تدريجياً. بعد ذلك وعلى طاولة العلميات، تم حقنهم بماء بارد ومالح، وبذلك تم إدخالهم في حالة من السبات الشتوي. وبعدها أخرجوا الطحال، ثم تركوهم على هذه الحال لمدة ساعة كاملة. بعد كل تلك المعاناة، أعادوا لهم الدورة الدموية، والمدهش أن الكلاب الثمانية قد عادوا إلى الحياة. النصف لا يعاني من أي أضرار في الدماغ، والنصف الأخر ظهرت عليه بعض المشاكل العصبية.

وحتى الآن يخشى العلماء القيام بتجارب فعلية على الإنسان، بسبب خطورة تلك العمليات. وتبقى هناك بعض القصص بالصدفة التي وصل فيها الإنسان إلى حالة سبات شتوي ورجع إلى الحياة. ولكن التجارب تجرى فقط على الحيوانات وبعض الأعضاء. وكل تلك التجارب والحياة الواقعية أيضاً التي نراها في الحيوانات، تصل إلى ساعات أو أيام أو شهور، ولكنها لا تصل أبداً إلى سنين. الفكرة كلها تعتمد بشكل كبير على تقليل درجة حرارة الجسم، وقد يصل إلى 15 درجة مئوية فقط. وعندها لن يصرف الجسم طاقة كبيرة، ولن يحتاج إلى طعام أو شراب. ولكن الإنسان قد يتعرض إلى مشاكل فسيولوجية خطيرة عند تلك المرحلة. فلن يستطيع الجسم التفريق بين البارد والساخن على سبيل المثال.

وتبقى أيضاً هناك مشاكل أخرى، مثل رعاية هذا الإنسان في فترة السبات الشتوي. ومن قد يسلم نفسه تماماً إلى جهاز. ومشاكل أخرى كثيرة يحتار العلم أمامها. ويظل السبات الشتوي قضية جدلية كبيرة. فهل يستطيع الإنسان التغلب على الموت والزمن في يوم ما؟

سلفيا بشرى

طالبة بكلية الصيدلة في السنة الرابعة، أحب كتابة المقالات خاصة التي تحتوي علي مادة علمية أو اجتماعية.

أضف تعليق

أربعة عشر − أربعة عشر =