تسعة
الرئيسية » العلاقات » حب ورومانسية » كيف ساهم الحب العذري في الوصول للرومانسية الحديثة؟

كيف ساهم الحب العذري في الوصول للرومانسية الحديثة؟

الرومانسية الحديثة نتاج جهد متواصل من الأدباء على مر العصور، قامت في بدايتها ثورة على الكلاسيكية الحديثة، مستفيدة من تجربة الحب العذري في الثورة على الكلاسيكية القديمة، نتعرف عن قرب على معنى الحب العذري ودوره في تشكيل الرومانسية الحديثة.

الحب العذري

الرومانسية الحديثة أو قل عنها إن شئت رومانسية التجربة والمشاعر المفعمة، والإحساس الراقي، والتجربة الذاتية المفعمة بالأفكار الواقعية الخيالية، والنظرة المتفحصة المتأنية، لم تكن وليدة التمرد على الكلاسيكية القديمة والحديثة على يد محمود سامي البارودي وأحمد شوقي وحسب، لكنها ضربت بجذورها العميقة إلى أعماق الأدب العربي، بداية من عنترة بن شداد، مرورا بشعراء الحب العذري في عصر بني أمية، الذي اشتهر بانتشار هذا النوع من الحب، الذي أصبح ذائع الصيت على يد رواده من أمثال قيس بن الملوح المعروف بمجنون ليلى، وكثير بن عبد الرحمن المعروف بكثير عزة، وجميل بن المعمر المشهور بجميل بثينة، ثم جاءت الرومانسية الحديثة لتكلل شجرة يانعة من الحب العذري الطاهر الممتد جذوره منذ أكثر من ألف عام، وتحديدا منذ العصر الجاهلي.

الحب العذري ماهو؟

الحب العذري هو أحد ألوان الشعر الغزلي العفيف، الذي يصف فيه الشاعر لوعته واشتياقه وهيامه بمن يحب، ويستطرد في وصف حالته النفسية إذا ذكر محبوبته، وإذا مر بديارها، وتذكر مواطن مكثها، وصديقاتها، وجدها وهزلها، ضحكها وبكائها، دون أن يتطرق لأي من مفاتنها، أو يغازل شيئا فيها، وهذا أهم سمة من سمات الحب العذري عن الغزل الصريح، الذي لا يتغزل في محبوبته إلا تصريحا، سواء أكان التصريح في الوصف أو في التشبيه والتشبيب، ووصف هذا النوع بالشعر الماجن؛ لأن الشاعر كان لا يكف عن ذكر مفاتن محبوبته، ومغامراته معها، ومجالس مجونهما ومتعتهما، ومثل هذا الاتجاه الشاعر الشعوبي بشار بن برد، وشاعر الخمر والنساء أبو نواس.

الحب العذري عند العرب

ولع العرب الأوائل في جاهليتهم بالغزل بشكل عام، وهاموا به حتى إنهم لم يتركوا قصيدة إلا وتغزلوا فيها حتى ولو كان غرضها الأساسي ليس غزليا، فكانت المقدمات الغزلية شقيقة لمقدمات الخمر والناقة والبكاء على الأطلال في القصائد العربية القديمة، هذا بخلاف القصائد الغزلية المكتملة لشعراء مثل عمرو بن الورد وعنترة بن شداد، ووصف الدكتور الراحل شوقي ضيف، الناقد الأدبي وأستاذ الأدب العربي بكلية الآداب جامعة القاهرة، الغزل العذري في العصر الجاهلي بالصوفية، مؤكدا أنهم اتخذوا المرأة رمزا صوفيا، يتغنى به، ولا ينتهى شغفه برؤيته أو لقائه، ولا ينتهي عنه إلا بإسلام الروح لباريها.

ما هي خصائص الحب العذري ؟

امتاز الحب العذري بخصائص ميزته عن غيره من الأغراض الأدبية في الشعر، ومثل في كل مراحله ثورة على الكلاسيكية التي سبقته، إذ كان في بداية نشأته ثورة على الغزل المجزوء في القصائد، سواء الذي كان مفتتحا في القصائد، أو المضمن في ثنايا الأبيات الشعرية داخل القصيدة العربية، فجعل شعراء هذا اللون الغزل غرضا مستقلا في القصائد، وأفردوا له القصائد الطوال دون أن يجعلوا في القصيدة غرضا آخر غير الغزل العذري العفيف، وهكذا كانت الرومانسية الحديثة، التي انتفضت على الكلاسيكية الحديثة، ورفضت الشعر المصنوع، وجعلت الشعر كله مطبوعا، نابعا من الذات، قائما على التجربة الشخصية، بدلا من شعر المناسبات وشعر الصنعة، الذي يخرج منضبطا متى أراد صاحبه وليس متى شعره.

كما يتميز هذا الشعر بانعكاس الأخلاق الحميدة عليه، والتأثر بالتعاليم الدينية، والالتزام بالعفة والطهارة، لذلك لا نرى في شعر الحب العذري فحشا أو بذاءة أو غزلا صريحا يحمل معاني الغزل الصريح بمعانيه الصريحة، بل يذهب إلى الذات، ويغوص في ثنايا نفس الشاعر المحب العاشق، الذي هام بحبيبته حتى خبلت لبه، دون أن يتطرق لمحاسنها وما أحبه فيها، وعلى الرغم من ذكر المحبوبة صراحة في شعر كل شعراء هذا اللون من الأدب، فإنهم التزموا بما تمليه عليهم أصولهم وعاداتهم وتقاليدهم القبلية، فلم يصبحوا صعاليكا كعمرو بن الورد ورفاقه في الجاهلية، بل صاروا لونا له قيمته كشعراء الزهد والزندقة والشعوبية وغيرهم.

واتسم شعر الحب العذري بالبساطة والمباشرة والوضوح، وحرص رواده على البعد عن التعقيد والصور المركبة، ومجافاة القسوة في التصوير، والاحتفاظ برونق اللين، الذي جافى حياتهم نتيجة حياة التقشف وشظف العيش التي امتازت بها حياتهم البدوية، على العكس من شعراء الغزل الصريح، الذين تأثروا بحياة المدينة والاختلاط بالأعاجم وزيادة أعداد المولدين والمستعربين والموالي، أما الدافع الذي جعلهم يحرصون على سلاسة الألفاظ وعزوبة التصوير فيعود إلى طبيعة الغرض الشعري ذاته؛ إذ إن الحب العذري ينطلق من شغاف القلب دون تكلف أو تصنع، وزيادة تعقيده تحيله للصنعة، ولهذا كان أبعد ما يكون عن القسوة.

امتاز هذا اللون من الشعر بالإخلاص والتوحد والتفاني في عشق محبوبة واحدة، وعدم التوجه بالحب لامرأة أخرى، بل ديدنهم الحب الأوحد الذي لا يخالطه شائبة، وتوحيد الحب عندهم يشبه توحيد الرب، وتعدد المحبوبة عندهم كالتاجر، وتوحيدها كالمقتني، وهم لم يكونوا تجارا، ولهذا اشتُهر شعراء هذا اللون بالوفاء والمحبة الخالصة، وصدق المحبة، وضُربت بهم الأمثال في ذلك، فقالوا: أحب من كثير عزة، وأعشق من مجنون ليلى، وأهيم من جميل بثينة.

ومما يجعل الحب العذري مختلفا عن غيره من الشعر أن صاحبه يتقلب في درجات الحب كلها كمن يتدرج على السلم الموسيقي درجةً درجة، يبدأ بأدناها “الإعجاب” ويمر بدرجاته المختلفة “التعلق والحب والهيام والعشق”، وقد يصل به الأمر إلى الجنون، وفي بعض الحالات يمر بأقصى درجات العشق والتعلق بالمحبوبة ويموت عشقا، وبهذا يصبح كل إنتاجهم الشعري صادقا نابعا من تجربة حقيقية عايشها الشاعر وتأثر بها، وهو ما استفاد منه رواد المدرسة الرومانسية الحديثة، وجعلوه شرطا لتسمية الشعر شعرا، وهو أن يكون معاشا نابعا من الشعور، وليس بالتعايش المصطنع مع الحالة المراد الكتابة عنها.

كيف ظهرت الرومانسية الحديثة؟

ظهرت الرومانسية الحديثة كنوع من التمرد على الكلاسيكية، التي كانت غارقة فيها قبل أحداث الثورة الفرنسية؛ إذ اعتبرت الكلاسيكية إطارا قديما للإبداع يجب أن يتخلص منه المبدعون، خاصة أنه لا يهتم بالتجارب الذاتية ولا بالمعاناة الشخصية، فيخرج أدبا أجوفا لا روح فيه، كما يظنه رواد الرومانسية، ولهذا أعلنوا ثورة تزامنت مع الثورة الفرنسية، عايشت آمالها، واكتوت بنار فشلها في بدايتها، حتى استقرت في وجدان شعرائها، ومن ثم انتقلت للعالم العربي بعد أن أحيا البارودي وشوقي روح الشعر من جديد بكلاسيكية أعادت للأدب روحه، فثارت على كلاسيكية مدرستهما الإحيائية، وأعلنوا من شأن المثل العليا وشعر الوجدان والعاطفة، وطبقوا الشعر النابع من التجربة، واستلهموا مادتهم من الطبيعة والخيال والقلق.

كيف استفادت الرومانسية الحديثة من الحب العذري ؟

استفادت الرومانسية الحديثة من الحب العذري أيما استفادة، خاصة أنها تمثل مرحلة ما بعد الكلاسيكية الحديثة، كما مثل الشعر العذري مرحلة ما بعد الكلاسيكية القديمة، فابتعدا معا عن الأغراض المتعددة في القصيدة الواحدة، وابتعدا عن الاستغراق في الوصف والتصوير ووحشي الألفاظ، واعتمدوا على البساطة والاسترسال والاعتماد على الألفاظ المستعملة، كما كسر كلاهما قواعد الشعر القديم، بل وكسروا عمود الشعر كما كان معروفا في القديم، وبنوا لأنفسهم عمودا جديدا، يحتفظ بقواعد العروض، ويتمرد على الغرض، إذ مالوا للاستفادة من الطبيعة والخيال، وعدم الاستغراق في الغزل الصريح، الذي يصل حد إلى حدود مقززة.

محمد الجداوي

أضف تعليق

2 + 3 =