تسعة
الرئيسية » اعرف اكثر » تعرف على » الاحتلال الاقتصادي : كيف اختلفت أساليب الاستعمار في عصرنا؟

الاحتلال الاقتصادي : كيف اختلفت أساليب الاستعمار في عصرنا؟

لم يعد الاحتلال العسكري ملائمًا في العصور الحالي لتحقيق أهداف الدول الكبرى، الاحتلال الاقتصادي واحد من أنظمة الاحتلال الجديدة، والتي حققت الكثير من النجاح.

الاحتلال الاقتصادي

الاحتلال الاقتصادي مفهوم بات يفرض نفسه بإلحاح على الساحة الثقافية والفكرية، خاصة في العالم العربي الذي بات يعاني من أزمات تخلف وردة على جميع الصعد والمستويات… السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية. ذلك أن المنطقة العربية ما فتأت تتملص من استعمار الأرض والاحتلال الميداني الذي أقامه عليها الغرب الأوربي- عبر حركات التحرر والاستقلال التي اندلعت في القرن الماضي (القرن العشرين) حتى وقعت في نوع آخر من الفخاخ التي نصبها لها المستعمر الغربي الذي امتاز عن نظريه العربي بثورة ثقافية وحضارية وعلمية وسياسية واقتصادية. الاحتلال الاقتصادي مفهوم مكون من شقين: احتلال، واقتصاد. ولفهم أعمق لهذا المفهوم علينا بتحليله إلى هذين العنصرين وفهم كل عنصر على حدة، ثم تركيبهما من جديد لفهم أعم وأعمق للمفهوم المراد إيضاحه.

كيف يحدث الاحتلال الاقتصادي ؟

الاحتلال

تقوم فكرة الاحتلال بالأساس على قيام دولة ما بإخضاع دولة أخرى سواء كانت مجاورة أو نائية عنها لسيطرتها السياسية والاقتصادية (ومن ثم تحل محلها في القيام على شؤونها السياسية والاقتصادية والإدارية)، وذلك بعد الإجهاز على السلطة المحلية لهذه الدولة. ويكون الغرض الرئيس وراء هذا الاحتلال إما لمد نفوذ سياسي يرضي النزوع الإنساني الدفين للسلطنة داخل نفس الملك أو الإمبراطور المغير، أو لاستغلال الدولة المغيرة لمقدرات الدولة المغار عليها من ثروات زراعية إلى معادن وثروات طبيعية إلى رقعة جغرافية متميزة تتيح لها الاتصال بمناطق حيوية أخرى تفتح لها أبواب الإفادة على مصراعيها… إلخ.

الاقتصاد

أول ما يرمي إليه مصطلح الاقتصاد هو: الإدارة الحكيمة للمنزل لأجل صالح الأسرة وخيرها. ثم تطور بعد ذلك ليشمل بمعناه “إدارة الدولة”. ومما تقدم نستطيع مبدئيا أن نفهم الاقتصاد على أنه: فن الإدارة لإمكانات الدولة ومقدراتها وثرواتها بما يتماشى مع متطلبات أفرادها وسد حاجاتهم الأساسية. كما أن مفهوم الاقتصاد في المعنى الحديث، بل المعاصر، يمتد لأبعد من ذلك بحيث يشمل العلاقة بين التنمية والموارد البيئية. فيكون بذلك التنمية الاقتصادية في تضاد مع البيئة وإمكانياتها وقدراتها على العطاء، بحيث أن مزيد من التنمية الاقتصادية يعني مزيدا من الاستنزاف لموارد البيئة ما يعني أيضا العمل على استنفادها في أسرع وقت، الأمر الذي فرض مفهوم: “أزمة الأجيال المستقبلية”. ما يعني أن مفهوم الاقتصاد لم يعد مقصورا على إدارة الموارد البيئية لسد احتياجات أفراد الدولة، بل أصبح أوسع بحيث يشمل ضمان وتأمين احتياجات أفراد الأمة، أي أن هذه الموارد ليس فقط من حق الأفراد الذين هم على قيد الحياة، وإنما أيضا للأفراد الذين هم في رحم الغيب ممن سيأتون من بعد ليجدوا لهم ما يكفي لسد حاجاتهم أيضا.

بين الاحتلال الاقتصادي والطبيعة الإنسانية

لا شك أن مفهوم “أزمة الأجيال المستقبلية” قد تولد بفعل إقبال الإنسان المتزايد على البيئة استغلالا واستنفادا لصالح التنمية، والتنمية الاقتصادية إنما هي من شأن الحاضر العاجل. ولما كان الإنسان هو الكائن الأكثر نهما وعطشا للمزيد على سطح الأرض، ولما كان هو أيضا الكائن الأكثر تعقيدا -لا في تكوينه الجسدي والنفسي فحسب، وإنما فيما يستهلك من موارد- فهو الكائن الذي يحتاج لغذائه وتطوره الأنواع العديدة المختلفة من الموارد من مأكل ومشرب وملبس تلزم عن تكيفه مع البيئة المحيطة بمتقلباتها. كل ذلك كان أحد أهم دوافع الأمم لتتحارب إما لغزو أمة أخرى أو للدفاع عن نفسها من هجمات أمة أخرى. فلو أننا اعتبرنا التفسير الماركسي للتاريخ، لقلنا أن العامل الاقتصادي هو المحرك الأساسي للتاريخ. وعليه، فإن الدافع الأول والرئيس وراء عمليات الاحتلال المختلفة لهو دافع اقتصادي في المقام الأول. وليس أدل على ذلك من أن الاحتلال الذي ساد الأرض من قبل الغرب الأوربي منذ مطلع العصر الحديث وحتى منتصف القرن الماضي، قد انقلب منذ منتصف القرن الماضي ليمسي احتلالا عن بعد، فيما يعرف ب الاحتلال الاقتصادي الذي استُعيض به عن احتلال الأرض المباشر.

ما قبل الاحتلال الاقتصادي

يعتبر الاحتلال الاقتصادي هو الصورة المعاصرة للاحتلال، ذلك أن مفهوم الاحتلال لازم البشر منذ أن قامت فكرة الدولة على إطلاقها، وربما قبل ذلك أيضا. لكن احتلالا ساد أغلب بقاع الأرض مطلع العصر الحديث عقب الكشوف الجغرافية التي قام بها المستكشفون الأوربيون من غرب أوربا، وتحديدا البرتغال وإسبانيا. وكانت هذه الكشوف نتيجة لمحض متطلبات اقتصادية. إذ أنه لما استطاع المسلمون بقيادة محمد الفاتح من إسقاط القسطنطينية (إسطنبول حاليا) في قبضة أيدهم، وكانت القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية المسيحية، وهي من ثم الممر البري الوحيد للأوربيين للتجارة مع الهند حيث التوابل التي يحتاجها الأوربيون في قارة يغمرها الصقيع. ولما كان قد حيل بين الأوربيين وبين هذا العنصر الحيوي بسبب رفض المسلمين عبور القوافل الأوربية عبر القسطنطينية بعدما آلت إليهم، اضطر الأوربيون اضطرارا للبحث عن طرق أخرى عبر البحر بتمويل ودعم من كبار التجار الأوربيين آنذاك للمستكشفين والمغامرين.. وربما يسهل علينا ملاحظة أن في كل خطوة يخطوها الغرب نحو التقدم الاقتصادي والاكتشافي/ العلمي، كان التجار وراءها، مما يعني أننا نعود لنقول أن العامل الاقتصادي بحق هو العامل الأكثر حسما في عملية ارتقاء الحضارات. ولسنا نعني هنا بالعامل الاقتصادي وفرة ضخمة من مال غير مبذول الجهد فيه نتيجة ثروات طبيعية اكتشفت بمحض الصدفة، وإنما العامل الاقتصادي نعني به الرغبة الملحة والقدرة المهولة على تطويع وتطوير الموارد المتاحة بغية المزيد من الكسب. على كل، ببزوغ الاكتشافات الجغرافية والتي كان من أهمها اكتشاف رأس الرجاء الصالح بالاستدارة حول قارة إفريقيا وصولا إلى الهند على يد فاسكو دي جاما، واكتشاف الأمريكتين على يد كريستوفر كولومبوس وأمريجو فسوبيتش. كانت هذه الاكتشافات إيذانا بموجة استعمارية اجتاحت العالم بأسره من قبل الغرب الأوربي. وقد قام هذا الاستعمار الذي ابتدأ مع مطلع العصر الحديث (مع القرن السادس عشر) على نفس ما قام عليه الاستعمار في العصر القديم.. الاحتلال العيني. أي أن الدولة المستعمِرة تقوم مقام الدولة المستعمَرة في شؤونها الإدارية والسياسية والاقتصادية. وكان الهدف من هذا الاستعمار هو استغلال مقدرات هذه الأمم وثرواتها لنقلها إلى بلدانهم، لكن الهدف المعلن آنئذ كان هو عملية تطوير وتعمير للدول الفقيرة ونقلها من مستوى أدنى إلى مستوى أعلى في سلم الحضارة والمدنية. ومن هنا كانت الكلمة “الاستعمار” أي التعمير!

الصورة المعاصرة للاستعمار.. الاحتلال الاقتصادي

بعد أن ذوت جذوة الاحتلال العيني في منتصف القرن العشرين، أي بعد الحرب العالمية الثانية، ومطالبة الأمم المستعمَرة باستقلالها عبر المناضلين والثوار، كانت الحيلة التي اكتشفها الغرب وأكدتها طبيعة التطور الاقتصادي هي أن الاستعمار العيني المباشر ما عاد يؤتي ثماره كما كان، وخصوصا بعد أن تكبدت الدول الغربية الكثير من المال بسبب الإمدادات التي تحتاجها الحروب والجيوش البعيدة التابعة لهم. فكانت العولمة -تلك الكلمة الرنانة التي صدعوا رؤوسنا بها- هي حصان طروادة لهم والذي يتيح لهم سيطرة عن بعد وبدون الحاجة إلى دانات الدبابات وأموال طائلة تتطلبها جحافل الحرب. والعولمة باختصار هي جعل العالم قرية صغيرة بفعل وسائل الاتصال الحديثة من إنترنت إلى هواتف نقالة إلى طائرات نفاثة.. إلخ. ومن آليات العولمة مجموعة من القوانين -التي على رأسها القوانين الاقتصادية- التي ما إن توقع عليها حكومة من الحكومات -التي تصبو لأن تصبح معولمة- حتى تعمل هذه القوانين دولية الطابع بشكل حتمي آلي على هذه الدولة وبفعل دول أجنبية أو شركات كبرى متعددة الجنسيات وعابرة للقارات، وبشكل لا تستطيع رده حتى هذه الحكومة القومية إن ارتأت فيه ما يضرها ولا يفيدها. فعبر عمليات الإقراض والمساعدات ذات السمعة السيئة إلى آخر هذه الآليات للتحكم والسيطرة، تُسلب الحكومات القومية من أي خيارات سوى إيلاء الاهتمام لسداد الديون المتراكمة نتيجة الفوائد التي وقعت عليها، حتى ولو على حساب الحاجات الأساسية للسكان من مأكل ومسكن وما إلى ذلك.. الأمر الذي يؤدي إلى ازدياد الهوة بين أغنياء العالم وفقراءه مما ينذر بمستقبل بالغ القتامة في مقبل الأيام.

هكذا اتخذ الاحتلال شكلا مغايرا ليمسي تحقيقا صافيا لأغراض الإنسان الاقتصادية. فالمال وسيلة للمال، وليست الجيوش والمستعمرات هي وسيلة للمال!

الاستعمار في ثوب جديد

بالطبع يقوم العالم اليوم -وقبل اليوم- على سياسة القوة، ولا أحد ينكر ذلك. فكما تسيطر الحيوانات القوية على الحيوانات الضعيفة وتنصب نفسها أنها هي السيد وهم العبيد أو الرعية.. لن يختلف المعنى كثيرا، سوف نجد ذات الأمر بين الدول. فالدولة الأقوى صاحبة القوة الاقتصادية الأقوى هي التي تملك زمام الأمور وإن كان لا يظهر هذا جليا وإنما في الباطن. كانت السيطرة قديما تتأتي من استعمار الأرض، أو بمعنى أكثر وضوحا احتلالها وفرض السيطرة عليها، ولكن مع التقدم الهائل كان لابد من أن تتقدم طرق الاحتلال أيضا وتختلف ذريعته بشكل يتناسب مع الفكر الليبرالي الحديث. في البدء كان احتلال الأرض والاقتتال وحصد الكثير من الخسائر، وتكون النتيجة حصول المستعمر على الامتياز الاقتصادي والسياسي ونهب أموال الدولة. ولكن الآن وجد المستعمرون أنهم يستطيعون تحقيق كل هذه المكاسب دون أن يبذلوا الكثير من الجهد أو يتكبدوا الكثير من الخسائر عن طريق الاحتلال الاقتصادي فتحول الاستعمار من الأرض إلى الحكم والسيطرة عن بعد -بشكل يتناسب مع الصورة الحديثة للحضارة- والتحكم في اقتصاد الدول ونهبها بشكل راقٍ أمام الجميع وفي ثوب نشر الحركة الليبرالية الحديثة وتحقيق الرخاء والتنمية.

صندوق الخراب الدولي

بالطبع يقوم المستعمر بتجديد أسلحته كما يقوم بتجديد طرائقه في التفكير والحكم والسيطرة، وكان ما يسمى بصندوق النقد الدولي إحدى أسلحة الخراب وإحدى صور الاحتلال الاقتصادي التي اخترعها الاستعمار حيث يظهر لنا أنه يساعد الدول الفقيرة والمنكوبة حتى تقوم مما هي فيه، ولكن الحقيقة أنه يضمن أن لا تقوم لاقتصاد هذه الدول قائمة مرة أخرى. ويمكنك من خلال مراجعة الاتفاقيات التي يعقدها مع هذه الدول باعتباره يقوم بمساعدتها -لتعلم أنه يفرض عليها شروطا للخراب الاقتصادي وليس للإصلاح كما يدعي، فلم يتدخل في اقتصاد دولة من الدول ونجحت! بالطبع إلا إذا أراد المستعمر هذه النتيجة، ولكن الوجه الحقيقي له أنه أداة للاستعمار في ثوبه الجديد، ففي مقابل بعض الأموال يضمن الحكم والسيطرة في أمور البلاد والعباد.

تنمية فارغة

إحدى صور الاحتلال الاقتصادي تتجلى في مشروعات وسياسات التنمية التي يدعيها المستعمر ويملأ بها الدنيا، فهو يحارب الفقر، وأنت تجد أن الفقر يزداد وحشية وضراوة مع مرور الوقت. ينشر حقوق الإنسان وترى الواقع مهين للإنسانية وممتهن لكرامة الإنسان بطرق تتعدد وتختلف وتزداد مع مرور الوقت. ينشر جمعيات الدعم والتنمية في كل البلاد ولا تجد سوى التدني والتراجع وتفاقم الأزمات، فترى أنها تنمية كاذبة ومؤسسات مستعمرة لا هدف لها إلا كونها أدوات المستعمر الجديدة التي تتناسب مع موضة العصر والتفكير الليبرالي الحديث.

ليزا سعيد

باحثة أكاديمية بجامعة القاهرة، تخصص فلسفة، التخصص الدقيق دراسات المرأة والنوع.

أضف تعليق

15 + سبعة عشر =